بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد و آل محمد الأطيبين الأطهرين
و اللعنة الدآئمة الوبيلة على أعدآئهم و ظالميهم أجمعين
السلام على الحسين و على علي بن الحسين و على أولاد الحسين و على أصحاب الحسين عليهم السلام
13 رجب المرجب الأصب سنة 1430 هـ ق الموافق ليوم ميلاد ولي الله الأعظم سيدنا و مولانا أمير المؤمنين علي بن إبيطالب صلوات الله و سلامه عليهما
يــا عـــلـــــــــي
----------------------
ملاحظة مهمة :
كنت قد بدأت بهذا الشرح في منتديات شبكة هجر الثقافية , تحت عنوان " بارقة النور في شرح زيارة عاشور " إلا أني و لمناسبة حديث الشريف : إن الحسين مصباح الهدى و سفينة النجاة , إرتئيت تغير إسم هذا الشرح إلى " مصباح الهدى في شرح زيارة عاشوراء , و أحببت تيمنا أن أبدأ هذا الشرح هنا , في يوم ميلاد شمس الشموس و أنيس النفوس مولانا الإمام أبالحسن علي بن موسى الرضا المدفون بأرض طوس صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين , و أسألكم جميعا خالص الدعآء بحق فاطمة الزهرآء سلام الله عليها .
لواء الحسين
و من الله التوفيق
يــا عـــــلـــــــــــي
------------------------------------------
11 عشر من شهر ذي القعدة يوم ميلاد إمامنا الضامن الرضا من آل محمد صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين سنة 1430
المقام الأول : معنى الزيارة و حقيقتها
الزيارة كما قد ذكر المجمع , زاره يزوره زيارة : قصده , و كذلك الزيارة من الزَّوَر وهو الإكرام والإحسان، والتَّزْويرُ: أن يكرم المزور زائره ويعرف له حقّ زيارته، وزاره أي أكرمه وأحسن إليه ومال إليه، و تزاورَ عنه أي مالَ عنه ومنه قوله تعالى: )وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ( [الكهف:17]، وقد زوَّرَ القومُ صاحبهم تزويراً: إذا أحسنوا إليه، والزُّور: جمع أزور من الزَّوَر وهو الميل. والزاير من دون همز الألف هو الحبيب، ومع الهمز (زائر) بمعنى الغضبان.
فاعلم : إن حقيقة الزيارة عبارة عن حضور الزائر عند المزور , و لم يؤخذ في حقيقتها بحسب العرف و اللغة شيئ زائد على ذلك .
فإن حقيقة هذا الحضور و التأدب في حضرة المحضورعنده تكون بالزيارة , و بلوغ المرء الغاية إنما هو بتحقيق هذا الحضور .
فإن الذي يزور أبي عبدالله الحسين عليه السلام كمن زار الله في عرشه , و ذلك لأن أجساد الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين لا تبقى في الأرض و ترفع إلى العرش , و كذلك فإن أبي عبدالله الحسين عليه السلام ينظر من يمين العرش إلى زواره , فإن هذه النظرة المعصومية الشريفة الرحيمة لها آثار تكوينة في تكامل هذا الزائر المُكرّم , فمن يأتي بحقيقة الزيارة سيرتقي إن شاء الله لحضور في عرش الله لزيارة أبي عبدالله الحسين عليه السلام , و هنا يجب أن لا تفهمه بالمعنى المادي البحت , بل الأمر على نسق قولنا أن الصلاة معراج المؤمن , و قد يساورك بعض الشكوك في قولنا أننا يجب أن لا نفهم الأمر على جانب مادي بحت و بين قولنا أن أجساد أئمتنا صلوات الله عليهم أجمعين لا تبقى في الأرض بل و ترفع إلى العرش , للجواب على هذا السؤال يجب علينا أن نتدبر في أحاديث الخلقة الطينية , فمن خلال التدبر في هذه الأحاديث و الروايات يتبين لنا أن مقام أجساد أئمتنا و شرافتها هي بمقام أرواح شيعتهم , إذ أن أرواح شيعتهم صلوات الله عليهم خلقت من فاضل طينة التي خلق منها أجساد أئمتنا عليهم السلام , و هذا الفارق موجب لكثير من الأحكام , فعلى هذا لا يبقى إشكال في البين , و يحل الإشكال الذي طرح .
و مضافا على هذا , إنه قد ورد في زيارات أخرى لسيد الشهدآء سلام الله عليه ما يشير إلى هذه الحقيقة , مثل "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَتْرَ اللَّهِ الْمَوْتُورَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الْخُلْدِ وَ اقْشَعَرَّتْ لَهُأَظِلَّةُ الْعَرْشِ وَ بَكَى لَهُ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ "
كما أنه يتحقق حضور عند الإمام عليه السلام في يوم المحشر و لكنه حضور الحساب و ليس حضور الزيارة , كما في الزيارة الجامعة الكبيرة الشريفة : وإياب الخلق إليكم وحسابهم عليكم .
--------------------------------------------
المقام الثاني : تحقق الحضور
إعلم إن الحضور لا يتحقق مع الغفلة , ولا بد من المعرفة , و المعرفة تحتاج إلى قابلية و القابلية تستلزم الطهارة , لأن الفيوضات و البركات التي يتلقاها الإنسان من ملكوت العالم هي بجهة توجهه التام , لأن الإنسان صرفا مبدأ قابل , و لا بد من أن ينمي قابليته إلى حد النصاب , حتى يتمكن من إدراك الإفاضات الربانية , و هذه القابلية منوطة بطاهرته الباطنية و صفاء روحه , و في مثل هذه الحالة من الحضور لا يؤذن حتى في نية المعصية و الذنب , فعليه يتجلى أن مبدأ تمام البركات هي في توجه التام و الحضور الدآئم ,
و في آيات الذكر الحكيم إشارات كثيرة إلى لزوم دوام الحضور و البُعد عن الغفلة
ولا تكونوا كالذين نسوا الله فانساهم انفسهم اولئك هم الفاسقون
وطائفة قد اهمتهم انفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية
واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والاصال ولا تكن من الغافلين
و كما قلنا أن لا بد من الحضور التام
و للحضور آداب , منها مادية , مثل عدم حضور الجنب , و منها المعنوية
الأول سهل و لا يتطلب الكثير من الجهد , و لكن الثاني هو الأهم , إن الطهارة الباطنية مفتاح سر كثير من الأمور و خارقة لكثير من الحجب .
و لا يفوتني أن أقف معكم هنيئة في محضر درس الأستاذ القدير و العارف الجليل الشيخ جوادي آملي حفظه الله تعالى يحدثنا عن الطهارة المعنوية :
الطهارة المعنوية
إن ما يقربنا إلى الله تعالى هو التجافي عن دار الدنيا، لأن الإنسان لا يمكنه الوصول إلى الله عز وجل مادام متعلقاً بالدنيا، إن دنيا الإنسان من منصب ومال وحب للنفس تحجبه عن الوصول إلى الله عز وجل، ولهذا يقول تعالى عندما يريد أن يبين أسرار العبادة: أريد أن أطهركم، والإنسان إذا لم يطهر لا يستطيع أن يصل إلى الله عز وجل، والقرآن الكريم ذلك الفيض الإلهي الذي أنزله تعالى لا يشمل إلا المطهرين: (إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون)، (الواقعة: 77 ـ 79) .
فالمطهرون فقط هم الذين ينهلون من معارف القرآن، والمطهرون الواقعيون هم الأئمة والقرآن الكريم يصفهم بقوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)، (الأحزاب: 33).
فلا يصل إلى عمق القرآن إلا المطهرون، فالأئمة هم الذين يعرفون عمق وحقيقة القرآن، وتلامذتهم ينهلون من معارف القرآن أيضاً، كل حسب طهارته.
القرآن يعتبر الطهارة سر العبادات، وما التعليمات والإرشادات القرآنية إلا لتطهير الإنسان، وليس المقصود من الطهارة، الطهارة الظاهرية،
وإذا كان الإنسان يتصور أن الوضوء بالماء وغسل ظاهر بدنه يطهره طهارة ظاهرية، فهذا غير صحيح لأن الطهارة تحصل بالتيمم بالتراب أيضاً، ومن هنا يظهر أن المقصود من الطهارة التي يريدها الله عز وجل هي الطهارة الداخلية، الطهارة من الأنانية وحب الذات.
من الممكن أن يطهر الماء بدن الإنسان طهارة ظاهرية، لكن ضرب اليدين على الأرض ومسح الوجه بهما يطهر الإنسان طهارة معنوية، ففي سورة المائدة آية تبين هذا المعنى للطهارة: (فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون). (المائدة: 6)
فاذا لم تجدوا الماء فامسحوا وجوهكم وأيديكم بالتراب لكي تتطهروا، يقول بعض الأكابر من العلماء: إن ضرب اليدين على الصخر المجرد الخالي من التراب مشكل لأن الآية الكريمة تقول: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)، فلابد من التصاق شيء من التراب بالوجه.
يقول تعالى: انه لا يريد بكم المشقة والعناء بل يريد أن يطهركم، فيظهر أن مسح الوجه واليدين يطهر الإنسان طهارة معنوية، يطهره من الغرور والأنانية، فلا يتكلم بكلام غير مرض، كأن يقول: إنني أرى كذا وكذا.
ومع أن الله عز وجل لم يترك نعمة إلا وأحصاها، فهو بحثنا على شكر النعم والتيمم نعمة من الله تستحق الشكر.
ليس هناك عدو للإنسان أكبر من العدو الداخلي، أي النفس، وليس هناك خبثاً أكبر من خبث النفس، ولهذا جاءت العبادات لانقاذ الإنسان من الأمراض النفسية، وكل تعاليم الدين الحنيف جاءت لتطهير الإنسان، فالإنسان يصلي ويصوم، ويجاهد من أجل أن يتطهر، ويستشهد من أجل أن يطهر، ويتحمل الصعوبات وويلات الحرب من أجل أن يكون نقياً وخالصاً من الغرور.
وكما أن للصلاة سراً، فكذلك الصيام، والطهارة واحد من تلك الأسرار، وللذهاب للقتال سر، وللحج سر، وكما أن المصلين ليسوا سواء في الدرجات، فكذلك الحجاج والمجاهدون، فلابد من أن نعمل عملاً نتفوق به بين المصلين والحجاج والمجاهدين.
هذه هي المهمة العالية التي علمتنا بأن الطريق إلى الله عز وجل مفتوح، وليس هو حكراً على أحد، أو مغلقاً بوجه أحد، نحن عندما ندعو بدعاء كميل في ليالي الجمعة نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أفضل عباده عنده، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الطريق إلى الله عز وجل مفتوح، "وأقربهم منزلة منك وأخصهم زلفة لديك"، دعاء كميل. فالطريق لم يغلق بوجه أحد.
إن همتنا ينبغي أن لا تكون في عدم الاحتراق بالنار، فعدم الاحتراق بالنار ليس فخراً، لأن الكثير من الناس لا يحترقون ولا يعذبون بالنار، كالأطفال والمجانين والمستضعفين الذين لا يعرفون الأحكام الإلهية، فليس الفخر في الخلاص من النار، وإنما الفخر والفضل في أن نكون أفضل العباد عند الله، وأن نكون قدوة للبشرية، أن يجعلنا الله تعالى في أعلى مقام يمكن أن يصله الإنسان، غير مقام الأنبياء والأئمة .
هكذا يجب أن تكون همتنا، ففي الحديث الوارد عن الحسين بن علي بن أبي طالب عن رسول أنه قال: "إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفاسفها"، فالله سبحانه يحب ذوي الهمم العالية والأفكار الصحيحة.
يجب أن لا يكون سعينا من أجل النجاة يوم القيامة من النار، وأن نعبد الله خوفاً من ناره "تلك عبادة العبيد"، فلقد جاءت الأحاديث التي تدعو إلى إحياء الهمم العالية والطلب منه تعالى معالي الأمور وأشرافها.
يعلمنا الحديث الوارد عن الحسين ـ والذي هو مصداق لسيرته ـ كيف نكون أصحاب همم عالية؟ كيف تكون الأمة أمة عالية، هذه الروح العالية والاباء العظيم تعلمه من جده رسول الله ، فالذي يتربى ويتعلم ويتخرج من مدرسة رسول الله لا يتذرع بالحجج الواهية، إنها كلمات الفداء والتضحية والشهادة وليس في عقيدة الإمامة والولاية معنى للخوف، ولا يمكن أن يتطرق الخوف لأولياء الله عز وجل.
لو تسنى لشخص ما أن يكون إنساناً أبدياً، وأن يصل إلى مقام سام، عندئذٍ يكون همه السعي للوصول لذلك المقام، نحن لسنا بصدد الحديث عن مقدار من الماء أو بقعة من الأرض، أو في كيفية الخلاص من النار، جميع التعالمي الدينية لها جانب روحي وجانب مادي، وجميع موارد الطهارة حتى التولي والتبري لا تخلو عن هذين الأمرين، وكذلك الحرب والجهاد، وإن الروحية العالية هي التي أوصلت الشهيد إلى ذلك المقام الرفيع.
إن القرآن الكريم هو الذي دلنا على الجانب الروحي للعبادات، لننطلق منه إلى معرفة بقية الأحكام، لقد بدأ القرآن الكريم بالطهارة وصولاً إلى بقية الأحكام الإلهية، والظاهر من هذه الأحكام أن الله عز وجل يريد للإنسان أن يكون عبداً له لا لسواه.
يقول الرسول بخصوص الصلاة: في كل وقت من أقاتها ينادي ملك "أيها الناس قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فأطفئوها بصلاتكم". من لا يحضره الفقيه (ج1، باب 30) فضل الصلاة الحديث 3.
إن الصلاة نهر صاف، وعين ماء الكوثر، فهي تطفئ النيران وتمنع من تجدد اشتعالها على الظهور، إنها تمحو الذنوب التي اقترفها الإنسان، وتمنعه عن ارتكابها مرثة ثانية، وهذه هي خاصية الصلاة، كما ذكرها القرآن الكريم: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون)، (العنكبوت: 45) .
ونقل عن الإمام الصادق : "أول ما يحاسب به العبد الصلاة فإذا قبلت قبل منه سائر عمله، وإذا ردت عليه رد عليه سائر عمله، فإذا صليت فأقبل بقلبك إلى الله عز وجل فانه ليس من عبد مؤمن يقبل بقلبه على الله عز وجل في صلاته ودعائه إلا أقبل الله عليه بقلوب المؤمنين إليه وأيده مع مودتهم إياه بالجنة"، من لا يحضره الفقيه (ج1، باب 30 حديث 5).
فأول ما يسأل عنه الإنسان الصلاة فإذا قبلت قبل كل عمله، لقد عرف القرآن الكريم الصلاة والمصلين، فالمصلي من ليس له طمع في الدنيا، ولا تشغله الأموال الت في عهدته عن العبادة، وغيره هم عباد الدنيا الذين وصفهم القرآن الكريم بقوله: (إن الإنسان خلق هلوعاً * إذا مسه الشر جزوعاً * وإذا مسه الخير منوعاً)، (المعارج: 19 ـ 21) .
وهذه هي الطبيعة البشرية، ولكن القرآن يستثني المصلين من أولئك الذين لهم هذه الطبيعة فيقول: (إلا المصلين). (المعارج: 22)
فالمصلون محفوظون من هذه الرذائل، والصلاة هي التي تطهر الإنسان منها، وتحفظه وتطهر ذاته لأنها مجلبة الفضائل ومنجية من الرذائل.
يقول الإمام الصادق : "إن العبد إذا صلى الصلاة في وقتها وحافظ عليها ارتفعت بيضاء نقية، تقول حفظتني حفظك الله، وإذا لم يصلها لوقتها ولم يحافظ عليها ارتفعت سوداء مظلمة تقول ضيعتني ضيعك الله". من لا يحضره الفقيه ج1، باب30، ح6.
من هنا يتبين أن للصلاة حقيقة، وحقيقتها أنها حية ولها روح خالدة، وهي تدعو للمصلي ودعاؤها مستجاب، وإذا لم يصل الصلاة لوقتها ترتفع سوداء وهي تدعو عليه.
إن أفضل حالات الصلاة، عندما يكون المصلين في السجود، يقول الصادق : كلما اقترب الإنسان بجبهته من التراب من الله عز وجل "أقرب ما يكون العبد إلى الله ـ عز وجل ـ وهو ساجد". من لا يحضره الفقيه ج1، باب30، ح7.
وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين ، أنه قال: "عجبت لشخص أمام بيته عين ماء يغتسل منها كل يوم خمس مرات ثم لا يكون طاهراً"،
قال: الصلاة مثل عين الماء الزلال تطهر المصلي الذي يصلي خمس مرات في اليوم، الصلاة كماء الكوثر تطهر الإنسان، وإذا لم نحس بالطهارة ولذة الصلاة، فلنعلم أن صلاتنا ليست على الوجه المطلوب.
من الممكن أن تكون صلاتنا صحيحة لكنها غير مقبولة، إنما تقبل الصلاة عندما تتطهر بواطننا وتحدث تغييراً في نفوسنا، يقول الصادق : "لا تجتمع الرهبة والرغبة في قلب إلا وجبت له الجنة". من لا يحضره الفقيه ج1، باب30، ح11.
إذا خاف الإنسان من ربه وكانت تربطه بالله رابطة قوية فثوابه على الله الجنة.
أحياناً يجعل الإنسان الله وسيلة للوصول إلى الجنة، وهذا ناشئ عن ضعف الهمة، والله سبحانه لا يحب مثل هذه الهمم، ولكن في بعض الأحيان لا يطلب الإنسان من الله شيئاً سوى لقائه ورضاه، وهنا يفيض الله عز وجل نعمه على مثل هذا الانسان، فإذا اجتمعت الرغبة والرهبة في قلب الإنسان كان ثوابه الجنة، وإذا احضر الإنسان قلبه في الصلاة، كان على حفظ عينه وأذنه خارج الصلاة أقدر، وإذا أطلق العنان لعينه وأذنه خارج الصلاة منعته تلك الخواطر وكانت له شغلاً شاغلاً عن حضور القلب عند الصلاة، فالمهم أن يحفظ الإنسان جوارحه أثناء الصلاة.
لقد أمرنا بتطهير الفم: "طهروا أفواهكم فإنها طرق القرآن"، وليس المقصود بتنظيف الفم تطهيره بالمسواك فقط، بل حفظ اللسان والفهم عن الفحش وقول السوء وأكل الشبهة، حفظ الفم عن كل كلام سيئ، لأنه طريق القرآن، فإذا كان القرآن عين ماء الكوثر، فلا يمكن أن يمر هذا القرآن من فم لم يطهر، وإذا مر منه فلا تترتب على ذلك أي فائدة، فما العبرة من تطهير الفم؟ إن العبرة والفائدة هي أن نتلو القرآن يسمعه الآخرون، وأن نستمع فنهتدي بنوره ونقتدي به.
إن الله سبحانه وتعالى يتفضل على عباده بالرحمة والنعم إذا توجهوا إليه بقلوبهم، فقبل التفضل بالنعم الإلهية، يجعل الله عز وجل قلوب الناس متجهة.
ما أحلى أن يكون الإنسان موضع قبول المؤمنين ورضا قلوبهم، ألا يحب الإنسان أن يكون حبوباً لدى المؤمنين؟ يسعى الجميع لمساعدته والدعاء له بالمغفرة والرحمة، فمتى يكون الإنسان مهوى قلوب المؤمنين؟ وفي أي حال يطلبه المؤمنون؟ إذا كان قلبه متعلقاً بخالقه، خصوصاً في وقت الصلاة، عند ذاك يكون محبوباً لدى المؤمنين.
في دعاء إبراهيم الخليل : (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم). (إبراهيم: 37) اللهم اجعل مجموعة من الناس تهوى ذريتي وتحبهم.
يعلمنا القرآن الكريم كيف نكسب حب الناس فيقول: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً). (مريم: 96) فمن نعم الله عز وجل على عبده المؤمن في الدنيا أن يجلب قلوب الناس والمؤمنين له، ويجعله مرضياً عند الناس جميعاً، فأي نعمة أفضل، وأي درجة أعلى من هذه الدرجة؟
الطريق مفتوح أمام الإنسان للوصول إلى مثل هذا المقام، لكن سلوك هذا الطريق صعب، وهذا لا يعني أن الطريق مبهمة، بل هي غاية الوضوح والاستقامة، ونهايته سعادة أبدية خالدة.
كان الإمام الرضا وعند وقت تناول الطعام يطلب إناءً فارغاً، ويضع فيه من أفضل الطعام ثم يرسله إلى الفقراء وهو يقرأ هذه الآيات (فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة)، (البلد: 11 ـ 12) لماذا لا يخرج الناس من هذا الطوق؟ لماذا يحبون المشي في الأرض المنخفضة ولا يرتقون إلى القمم لتكون رؤيتهم واضحة وجلية؟ فالذي يمشي في السفح لا يرى شيئاً، أما الذي يصعد الجبل فسوف يرى الأشياء بشكل جيد، لماذا ينفق الناس الطعام الباقي واللباس القديم؟ ليس هذا طريق الخير، وليس هذا اقتحام العقبة، لماذا يرضى بالمستويات الهابطة؟ لماذا لا يحب الناس الصعود إلى معالي الأمور؟ وهذه الآية المباركة تدعونا إلى كسر الطوق وارتقاء المعالي، إن الله لا يحب الأعمال الخسيسة الدنيئة.
إذا شاهدنا أن القلوب مشدودة لمقام معين، فلنطمئن إلى أن الله عز وجل هو الذي شدها إليه، وهذا المقام نصيب كل من أراد الصعود وسلوك طريق الخير. فليس من المعقول أن يتوجه الإنسان بقلبه في الصلاة إلى الله عز وجل ولا يوجه سبحانه قلوب المؤمنين إليه، فهذه نعمة دنيوية قبل نعيم الآخرة، وهي خير الدنيا والآخرة.
لكل صلاة خصوصية معينة، ومن بين الصلوات، صلاة الظهر (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)، (البقرة: 238) لقد فسرت الروايات الصلاة الوسطى بصلاة الظهر، فإذا زالت الشمس وحان وقت الصلاة فلا تفوتنكم فضيلة الصلاة في وقتها. فعند الزوال تفتح أبواب الرحمة، فاسألوا الله عز وجل الرحمة، وفي هذا الوقت لا تكن مشغولاً بالدعاء لنفسك أو لوالديك بل أدع لجميع المؤمنين والمؤمنات ولتكن همتك عالية.
قال الرضا : "لك الحمد ان أطعتك ولا حجة لي أن عصيتك ولا صنع لي ولا لغيري في إحسانك، ولا عذر لي ان أسأت، ما اصابني من حسنة فمنك يا كريم، إغفر لمن في مشارق الأرض ومغاربها من المؤمنين والمؤمنات". (23) (23) بحار الأنوار: ج12، ص23.
وفي وقت الزوال تفتح أبواب الرحمة، ولهذا يستحب البدء بالجهاد بعد الزوال وذلك من أسرار الجهاد، وقبل الزوال يكون الجهاد مكروهاً، إلا أن يبدأ العدو بالقتال وحينذاك يصبح الرد عليه جائزاً في أي وقت، ويعلمنا القرآن الكريم أنه كما أن للمسائل الفردية قصاصاً فكذلك للأحكام الإلهية قصاص، فإذا قتل شخص ظلماً وعدواناً فلأولياء المقتول الحق في الاقتصاص، (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)، (البقرة: 179) فبالإمكان الرد على العدو إذا اعتدى في الأشهر الحرم (والحرمات قصاص). (البقرة: 194).
أي أنكم تستطيعون القصاص منهم في هذه الأشهر، فلا تقولوا يحرم الدفاع في الأشهر الحرام ضد من يعتدي عليكم فيها، بل دافعوا وردوا عدوكم، لأن السكوت على الظلم ذلة، والله سبحانه لا يحب الذليل "لا يحتمل الضيم إلا الضعيف". فما أسمى هذه المعاني وأرفعها! الإمام علي يصف الذي يقبل الظلم بأنه ضعيف، والأمة العزيزة الشريفة لا تقبل الظلم والجور يقول : "ردوا الحجر حيث جاء فإن الشر لا يدفعه إلا الشر". (28) (28) نهج البلاغة الحكمة 314.
لماذا يكون البدء بالقتال قبل الظهر مكروهاً، وبعد الظهر مستحباً؟ إن السر والنكتة في ذلك ما يستفاد من الأحاديث أنه عسى أن يهدي الله قلوب الكفار والمنافقين ويسلموا، وبذلك تحقن دماؤهم، هذا هو السر في الحرب، يقول صاحب الجواهر ـ رضوان الله عليه ـ إن سيد الشهداء الحسين بن علي بدأ الحركة والجهاد بعد صلاة الظهر، أما ما كان قبل صلاة الظهر فكان دفاعاً عن النفس، ولهذا صلى الإمام بتلك الحالة، ومن ثم نزل إلى ساحة المعركة لقتال العدو.
إن ابواب الرحمة تفتح بعد الزوال فاسألوا الله الرحمة الشاملة الكاملة.
عن الرسول أنه قال: "إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء وابواب الجنان واستجيب الدعاء فطوبى لمن رفع له عند ذلك عمل صالح". (29) (29) من لا يحضره الفقيه ج1، باب30، ح12.
فهنيئاً للذي يعمل عملاً صالحاً من بعد الزوال، إن عمله سيرتفع إلى السماء، وإذا ارتفع عمل ارتفع عامله، فليس من المعقول أن يرتفع العمل ويبقى العامل، وليس من الممكن أن تفصل نية الإنسان عن عمله، إن العمل ليس كالبخار أو الدخان، إنه حقيقة واقعية غير مفصولة عن روح الإنسان، ولا يرتفع العمل لتبقى روح الإنسان ملتصقة بالأرض وهي ـ أي الروح ـ منشأ الأعمال، فإذا ارتفع العمل وعامله أصبح الإنسان إنساناً ملائكياً في صف الملائكة.
ومما جاء في أقوال أمير المؤمنين القصار: "فاعل الخير خير منه وفاعل الشر شر منه"، (30) (30) نهج البلاغة الحكمة 32. فنفس الإنسان الصالح أفضل من العمل الصالح، وإذا كان للصلاة فضيلة فالفضل للمصلي لأن الصلاة فعله وأثره، فكيف ترتفع الصلاة ولا يرتفع المصلي؟ كيف يمكن أن يرتفع الصيام ولا يرتفع الصائم؟ وكذلك العمل السيئ ففاعل السوء، والفحشاء أسوأ من عمله.
فإذا ارتفع عمل الخير ارتفعت روح الإنسان الفاعلة له، كان الرسول يقول لأمته: (تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم). (الأنعام: 151)
تختلف (إليّ) عن (تعالى)، فإذا كان شخصان على سطح واحد وأراد أحدهما أن ينادي الآخر يقول له (إليّ)، أما إذا كانا على سطحين مختلفين فالذي في الطبقة العليا يقول للأدنى (تعال)، وكلام الأنبياء من هذا القبيل.
ذكر هذه الملاحظة صاحب التفسير البيضاوي إذ قال: عندما يبني بعض سكنة المناطق الجبلية بيوتهم فانهم يبنونها على سطح الجبل، وتبقى الوديان للزارعة، وعندما يذهب أطفالهم للعب في هذه الوديان يناديهم آباؤهم قائلين: تعالوا تعالوا... وكلام الأنبياء يشبه هذا، والقرآن الكريم عندما ينقل كلام النبي يقول: (تعالوا اتل... عليكم).
على متى نبقى ننظر إلى الأسفل، إلى التراب؟ يقول صدر المتألهين: الإنسان الذي يقضي عمره في بناء قصر أو جمع مال لا يمكن أن يرتقي أو يصل إلى مقام مقبول عند الله عز وجل، مثله مثل الشجرة كلما ازدادت شموخاً وارتفاعاً ازدادت جذورها في الأرض غوراً، إن أصل الشجرة هي العروق أما الأغصان فهي ليست إلا فروعاً.
والإنسان الذي همه هو الدنيا وزينة الأرض يتجه تفكيره إلى التراب، ومثله كثمل الشجرة التي تمد جذورها إلى أعماق الأرض، ومثل هذا الإنسان لا يستطيع أن يرتقي في سلم الكمالات، وقد أمرنا الله سبحانه أن نكون كالملائكة لا كالأشجار.
وردت هذه المعاني في أحاديث الرسول الأكرم مراراً، إذ يقول: تعالوا تعالوا فمتى ندرك ونرتقي إلى الأعلى؟ عندما لا نعرف شيئاً، علينا أن نصعد لنتعرفه، وعندما تنفلت من أيدينا زمام الأمور ينبغي أن نصعد لنتعلم كيف نسيطر على شهواتنا ورغباتنا.
من المؤسف أن يقف الإنسان إلى جانب الفساق والظلمة والمنافقين، ثم يقيس نفسه بهم ويقول الحمد لله، يقول الإمام المجتبى : لا تقس نفسك بالحقراء إلا فستبقى في مكانك ولا ترقى، بل قل الحمد لله إذا لم يجعلنا مع الكفار والمنافقين، لا تجعل نفسك مع هؤلاء، بل اجعلها مع شهداء كربلاء، وقس نفسك بأصحاب الإمام ، إحسب نفسك مع أولئك الذين صلوا صلاة الصبح بوضوء العشاء.
إن دماء أصحاب الحسين الطاهرة هي التي حفظت الإسلام، وهذا يعني أنه لولا تلك الدماء لما تحمل الإسلام كل هذه الضربات والأزمات وتشريد القادة وقتل الأئمة بأشكال مختلفة، فمنذ استشهاد الإمام الحسين حتى ولاية الإمام العسكري عانى الإسلام أشد المعاناة على أيدي خلفاء السلطة الأموية والعباسية وبقية السلاطين الظلمة، ومع ذلك بقي الإسلام، وما ذاك إلا بفضل تلك الدماء الزكية التي سالت على أرض كربلاء، وإذا أدركنا كيف حفظت هذه الدماء الأمة، عندئذ نعرف أن هذه الدماء ليست دماءً عادية، وبهذه الدماء نستطيع أن نحفظ بلادنا وإسلامنا.
يقول الإمام المجتبى : لا تجعل نفسك مع أهل الدنيا وإلا أصابك الضرر، ولقد كلفنا باحياء ليالي الجمعة ونطلب من الله سبحانه أن يجعلنا من أحسن خلقه (وأخصهم زلفة لديك)، ولهذا يقول رسول الله : "هنيئاً لأصحاب الأعمال الحسنة الصالحة، أولئك يرقون في السماء وتصبح أرواحهم ملائكية"।
----------------------------------------------
سُئلت :
فأجبت :
سؤالكم كان متوقعا , و ذلك لغموض الأمر , و لكني كنت قد أغضيت الطرف عنه حيث أن في الإفصاح عنه عدة عوائق , و من أهمها تشكيك المشكك , و إحداث إضطراب عند الضعيف , حيث أن الأمر ليس بالسهل .
و لكن لطمئنتكم أقول أن هذا الأمر أيضا يقول به أحد أجل علمآئنا الكبار و هو الشيخ المفيد رضوان الله عليه , قول الشيخ المفيد اعلى الله مقامه في أن ارواح الأئمة وأجسادهم صلوات الله وسلامه عليهم ترتفع إلى الاعلى ولا تظل اجسادهم في القبر .
و لكن كرما لكم أذكر لكم بعض ما جاد به يراع أحد علمائنا , و أذكر في طياته شيئ مما قد خفي على الكثير , و إن شاء الله يكون فيه الفائدة :
الأدلة الواردة جلها نقلية , و إن كان هناك مخرج عقلي له , من حيث رابطة الروح و الجسد , و لكن صعب علي شرحه , و سأقتصر على الروايات و الأدلة النقلية .
الروايات على طائفتين , فمنها ما دلّ على أن أجسادهم الطاهرة ترتفع، ومنها ما دلّ على العكس وتؤيده شواهد الواقع عبر التاريخ.
فمن الطائفة الأولى ما عن زياد بن أبي الحلال عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: ”ما من نبي ولا وصي نبي يبقى في الأرض بعد موته أكثر من ثلاثة أيام حتى ترفع روحه وعظمه ولحمه إلى السماء، وإنما تؤتى مواضع آثارهم ويبلغهم السلام من بيعد ويسمعونه في مواضع آثارهم من قريب“. (كامل الزيارات ص544 والكافي ج4 ص567 وغيرهما).
وكذا ما عن عطية الأبزاري عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: ”لا تمكث جثة نبي ولا وصي نبي في الأرض أكثر من أربعين يوما“. (التهذيب ج6 ص106).
أما من الطائفة الثانية فما عن المفضل بن عمر الجعفي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: ”إذا زرت أمير المؤمنين فاعلم أنك زائر عظام آدم وبدن نوح وجسم علي بن أبي طالب عليهم السلام“. (كامل الزيارات ص90 والتهذيب ج6 ص22 وغيرهما).
وكذا ما عن يزيد الكناسي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث: ”إن الله عز ذكره أوحى إلى موسى أن احمل عظام يوسف من مصر قبل أن تخرج منها إلى الأرض المقدسة“. (الكافي ج8 ص136 ومن لا يحضره الفقيه ج1 ص123 وغيرهما).
ويؤيد ذلك ما ورد من استسقاء بعض اليهود بعظم نبي، وما ورد من حرمة التقدّم على المعصوم في الصلاة حيا وميتا، وهو يلازم بقاء جسده في قبره. كما وتؤيده شواهد الواقع إذ قد شوهدت أجساد بعض الأنبياء (عليهم السلام) كالنبي حبقوق (عليه السلام) في إيران والنبي شعيب (عليه السلام) في العراق، بل شوهد الجسد الطاهر لمولانا أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) غير مرة، وذلك عندما كشف قبره الشريف موسى بن عباس الهاشمي أمير الكوفة بعد عام 65، وكذا عندما نبشه إبراهيم اليهودي المعروف بالديزج بأمر المتوكل لعنه الله.
والذي يرجح في نظرنا هو أن أجسادهم (عليهم السلام) ترتفع عن الأرض إلا أنها تعود في أحيان معيّنة لإظهار كرامتهم أو علو شأوهم عند الله تبارك وتعالى أو لحكمة أخرى، لا أنها تبقى في الأرض مطلقا.
ونستقرب ذلك جمعا بين الطائفتيْن وبضميمة رواية استشهاد السلطان الإمام الرضا (صلوات الله و سلامه عليه) التي ثبت فيها الصعود والهبوط، فقد روى الصدوق عن أبي الصلت الهروي (رضوان الله عليه) في مجريات تجهيز الرضا (عليه أفضل الصلاو والسلام) أن التابوت الحاوي للجثمان الشريف قد علا وانشق له السقف فمضى، فقال له أبو جعفر الجواد صلوات الله و سلامه عليه : ”أسكت فإنه سيعود، يا أبا الصلت.. ما من نبي يموت بالمشرق ويموت وصيه بالمغرب إلا جمع الله بين أرواحهما وأجسادهما“ وعندما أتم الإمام الحديث انشق السقف ثانية ونزل التابوت. (عيون أخبار الرضا عليه السلام ج1 ص267).
ولعل اختلاف الروايتيْن المتقدّمتيْن التي تنص إحدهما على أن الجسد يرتفع بعد ثلاثة أيام، والأخرى على أنه يرتفع بعد أربعين يوما؛ لعل الاختلاف يعود إلى تعدّد الصعود والهبوط، فيكون الصعود الأول بعد ثلاثة والثاني بعد أربعين.
وكما أن في شواهد الواقع بقاء الأجساد ورؤيتها في القبر بعد النبش فإن في بعض الشواهد أيضا فقدانها، كما حصل حين هجم المخالفون في بغداد سنة 443 على مشهد الكاظمين (عليهما السلام) فأحرقوه ونبشوا القبرين الشريفين فلم يجدوا شيئا. (تفصيل ذلك ذكره ابن الأثير في الكامل في التاريخ ج9 ص577، وقد علّل عدم عثورهم على شيء بأن الحفر قد جاء إلى جانب القبريْن بسبب ما حلّ في الروضة الشريفة من الهدم والحرق، لكنه تعليل سخيف إذ لا يمكن أن يخطئ أحد في تمييز القبرين الشريفين مع ما لهما من علامات ظاهرة، ثم إنهم هم الذين حرقوا وهدموا ما يعني أنهم قد ميّزوا الموضع من خلال العلامات – وأبرزها القبتان - قبل حرقها أو هدمها، وحتى لو وقع الحفر إلى الجانب فإن مقتضى الحال أن يجدوا جثثا أو عظاما أخرى إذ إن المشهد الشريف هو بالأصل مقابر قريش، وعدم وجدانهم شيئا لا شك أنه يسبب همّتهم في الحفر إلى جانب الموضع الذي حفروه وحوله حتى يتوصلوا إلى الجسدين الطاهرين، لكنهم لم يفعلوا لأن الأمر كان مفاجئا لهم حيث لم يجدوا شيئا. إنما الحق أنها كانت كرامة من الله تعالى حيث كان الجسدان مرفوعان إليه).
هذا وقد حمل بعضهم الروايات التي تنص على ارتفاع الأجساد الطاهرة على التقية، أي أن المعصومين (عليهم السلام) ذكروا ذلك حتى يكون مانعا للنواصب عن نبش قبورهم، لكن هذا الحمل مردود عندنا من جهتيْن، الأولى أن النواصب والمخالفين لا يعتقدون أصلا بما يصدر عن الأئمة سيما إذا كان هذا الحديث الصادر من نوع الإخبار بالغيبيات والكرامات، فكيف يُعقل تصديقهم لتلك الأحاديث ليمتنعوا عن النبش والحال أنهم يعتبرون الأئمة (عليهم السلام) كذابين والعياذ بالله؟!
والثانية أن حفظ أجسادهم (عليهم السلام) لا يتوقف على درء النبش عنهم، فهذا قبر سيد الشهداء (عليه السلام) قد نُبش ثم أُجرِي عليه الماء لكن الله تعالى حفظ وليّه ودفع شرّ أعدائه عنه، فالقول بصدور هذه الأحاديث تقية لدرء نبش قبورهم بعيد جدا إذ المتكفل بحفظ تلك الأجساد الطاهرة هو الله جل جلاله.
والحاصل أن الله تعالى يرفع أجساد المعصومين والأنبياء (عليهم السلام) بعد استشهادهم، ثم يعيدها إلى الأرض لحكمة في أحيان، ثم يرفعها، وسيعيدها ثانية في زمن الرجعة حيث ورد في الآثار أنهم (عليهم السلام) يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم.
>>>>>
و أخيرا بودي الإشارة إلى شيئ من الأسرار
إن المطلع على الروايات و الأدعية و الزيارات , يرى جليا أن في بعض الأوقات و الأيام قد ذكر أنه إختص بزيارة أبي عبد الله الحسين عليه السلام , أو أن زيارة سيد الشهدآء سلام الله عليه في هذا اليوم مؤكد كثيرا , و للإنسان أن يسأل لما هذه الخصوصية في هذه الأوقات بالذات , أقول , لعل هذه الخصوصية المتأتية لهذه الأوقات إنما هي لأجل أن سيد الشهدآء سلام الله عليه يكون حاضرا بروحه و جسده في تلك الأوقات في كربلاء المقدسة , فيزداد الأمر شرافة و خصوصية , و الله العالم .
>>>>>
---------------------------------------------
المقام الثالث : مدخلية المعرفة في تحقق الحضور
كما قد أشرنا أن لا حضور مع الغفلة و الغفلة إنما تأتي من قلة أو عدم المعرفة , فمن هنا يتبين لنا أن مدخلية المعرفة في تحقق الحضور .
و هذه المعرفة لا بد و أن يعقد عليها القلب لكي يسموا الإنسان بها إلى مدارج الكمال , هنا يأتي سؤال , و مفاده إذا كان الإعتقاد يصعد فهل الإنسان يصعد معه ؟
الجواب : إن النظرية العقلية تقول إذا إعتقد الإنسان إعتقادا و عمل بذلك الإعتقاد و ترسخ , فإن الإعتقاد و المُعتقِد ( الإنسان ) يكونان شيئا واحدا , و يكون العمل و العامل شيئا واحدا , فإذا صعد إحداهما و هو الإعتقاد , صعد المعتقِد معه , حسب نظرية إتحاد العاقل و المعقول .
و ليس معنى إتحاد العاقل و المعقول , إتحاد وجود الإنسان مع المعلوم ( المعتَقَد ) بل إن النفس حيث تعلم بذلك المعتقد ( المعلوم ) تتحول إلى وجود علمي و هو وجود ذلك الشيئ الذي علمته , فليس المعلوم شيئا و العالم شيئا آخر , و إنما يصيران شيئا واحدا , إنظر : الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة للملا صدرالدين الشيرازي رضوان الله عليه , ج 3 ص 327
و تقريب ذلك بمثال مادي , قطعة الفحم عندما تجعلها قريبة من النار فهي سودآء و لكن بعد مدة تتحول إلى قطعة حمرآء نتيجة تأثر النار فيها , حيث فقدت صفاتها السابقة , ففي السابق كانت مظلمة , و الآن منيرة و تصدر منها الحرارة , فحقيقة هذه الفحمة تحوّلت إلى حقيقة أخرى و هذا ما يعبر عنه في الفلسفة بالحركة الجوهرية , يعني أن الجوهر تحرك من حقيقة إلى حقيقة أخرى . فالإنسان حينما يعتقد بشيئ و يعمل على أساس ذلك المعتقد , فإنه يتحرك و يتقرب إلى الله تبعا لصعود إعتقاده إلى الله تعالى , لصيرورة الإعتقاد و المعتقِد شيئا واحدا , , و من هنا بودي الإشارة أيضا إلى لطيفة أخرى أن لا ساكن مطلق إلى الله عز و جل , و لازم أن لا تفهم معنى السكون و الحركة بمعناها المادي أي إنتقال من مكان إلى مكان , بل التحرك معناها الترقي أو التسافل في درجات الكمال , و الله عز و جل هو الكامل المطلق , فكل العالم يسبح , إلى الله عز و جل .
من كان يريد العزة فلله العزة جميعا اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر اولئك هو يبور
أما أثر العمل الطالح على عقيدة الإنسان
بعدما إتضح أن العمل الصالح يقوم بدورين , أحدهما تثبيت العقيدة الصحيحة , و الآخر رفع العقيدة الصحيحة من درجة وجودية إلى درجة وجودية أعلى , يكون من المنطقي أن نتمهل قليلا للوقوف على أثر العمل الطالح على عقيدة الإنسان .
فنقول إن ما نستوحيه من آيات القرآن الكريم , هو أن العمل الطالح أيضا يقوم بدورين أيضا :
الدور الأول : تثبيت الإعتقاد الباطل .
الدور الثاني : تكامل الإعتقاد الباطل في دركات الجحيم , كما قال الله تعالى :
" ان المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا "
فكما أن للجنة درجات و مراتب بحسب الإصطلاح القرآني كما قال الله تعالى :
" ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم اعمالهم وهم لا يظلمون "
كذلك الإعتقاد بالباطل له دركات مترامية في نار جهنم .
و مما يستدل به على ذلك قوله تعالى :
" ثم كان عاقبة الذين اساؤوا السواى ان كذبوا بايات الله وكانوا بها يستهزؤون "
فالآية في صدد أمر في غاية الأهمية و الخطورة , و هو أن هؤلاء الذين عملوا السوء لم يكونوا كفارا أو مشركين إلا أن عاقبة أعمالهم السيئة ساهمت في وقوعهم في ضلال , و تكذيبهم لآيات الله تعالى و السقوط في قاع الرذيلة و الإعتقاد الباطل , و التكذيب بآيات الله تعالى .
و بنفس المضمون جاء التعبير القرآني في آية أخرى بالقول :
" فاعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه بما اخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون "
حيث تصرح الآية الكريمة بأن هؤلاء لم يكونوا في البدء منافقين , إلا أن قيامهم بالأعمال السيئة و إصرارهم على ذلك أوقعتهم في هذا الدرجة من النفاق , لذا قال الله تعالى : " فاعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه بما اخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون " فالسبب الذي كان وراء صيرورتهم منافقين هو كذبهم على الله تعالى , إذ أن العمل الصالح يقوم بتثبيت العقيدة الصحيحة و الإرتقآء بالإيمان في سلّم الدرجات الصاعدة , و كذلك العمل الطالح يقوم بتثبيت العقيدة الباطلة و تنزلها في دركات الجحيم .
الآن بما وصلنا إلى هذا المقام لا بأس من الإشارة إلى بعض نكات حول تحول و صيرورة الإنسان إنسانا .
الإنسان في حالة الصيرورة
الإنسان من بدو تكوّنه قد بدأ في سيره التكاملي الطبيعي , بل أصلا جوهر حياته في حركته و رشده . هذا السير الطبيعي لجسمه و بدنه , و ليس للإنسان في ذلك إختيار , أي لا يقدر أن يختار متى ما اراد أن يكبر أن يكبر أو متى ما أراد أن يتوقف عن النمو أن يتوقف , فهو محكوم بهذا النمو شآء أم أبى , هذا السير موجود في وجود الإنسان . و لهذا السير الطبيعي و الرشد الدني و الجسدي حد معين و زمان مشخص , و بعدها يكون , ومن نعمره ننكسه في الخلق افلا يعقلون , فهذا السير الصوري موجب لتكمال الجسمي و الجسدي لبدن الإنسان .
أما الإنسان فليس فقط جسما بل له روح و نفس أيضا , و الإنسان مضافا على سيره التكاملي الجسمي يجب أن يكون له سير تكاملي لروحه , حتى يصار إنسانية هذا الإنسان إلى المرحلة الفعلية و يجد سعة وجودية و تكامل ذاتي حتى يتصف بالأوصاف الإنسانية و يتخلق بالأخلاق الهية , حتى يمتاز عن سائر الموجودات , و هذا السير التكاملي هو بإختيار الإنسان , و ليس له زمان مشخص , و لكن التوفيق كل التوفيق لمن بدأ سيره في أوائل شبابه و يتحرك إلى تفعيل قواه الإنسانية , لكي يصار من إنسان بالقوة إلى إنسان بالفعل , و هذا السير في التكامل و التعالي ليس له حد معين , فهو سير معنوي .
و مسير التكاملي للإنسان هو الدين , و التدين هو أصعب رياضة في سير و سلوك الإنسان . الدين عبارة عن جعل و تنظيم لأسرار التكويني و الطبيعي في مسيرة التكامل الإنساني الذي هو على وفق ناموس الخلق و الحقيقة و الواقع , الذي هو قد بُيّنَ بلسان السفرآء اللهيين , الذين هم أهل العصمة و الطهارة سلام الله عليهم أجمعين أئمة القافلة الإنسانية . و هذا الصراط المستقيم هو الصراط إلى الله عز و جل الذي من مر عليه و سار عليه وصل و من جاوزه ظلم نفسه و هلك , و أضاع حظه في حركته نحو الكمال و الإستكمال . " ومن يتعد حدود الله فاولئك هم الظالمون " و القرآن الكريم يرى الإنسان مسافر في حال السير و يقول , " يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه " فإذا كان الإنسان مسافرا و مقصده لقاء الله , فحتما و قهرا يكون سيره عموديا و طوليا , يعني سيره التكاملي يكون ملكوتيا , و ليس سيرا أفقيا إقليميا .
و سير التكاملي للإنسان نحو لقآء الله له ركنان , الأول قطع العلائق من الأرض من خلال العمل الصالح , و الثاني وصل العلائق مع السمآء من خلال الإيمان و العقيدة الصحيحة الراسخة : " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " و حقيقة التكامل هو المعراج , و لا يكون هناك معراج و سير معنوي دون هذين الركنين معا , لأنهما جناحان , و لا بد من جناحين للطيران .
" يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية " , فلا يقولون للواصل أرجعي بل يقولون للسالك إرجعي .
السير التكاملي للإنسان موافق لنظام الخلقة و ناموسها , و حقيقة السير التكاملي للإنسان هو تعليم و تأديب , لأن التعليم هو تنيمية و تربية النفس الناطقة الإنسانية , و طعام الروح و غذاء النفس , و تأديب الإنسان بالأعمال الصالحه هي ترسيخ لهذه التربية و دوامها .
فإذا صار تكامل الإنسان إلى حد النصاب , فحينها يستطيع الإنسان تدريجا أن يكون مظهر العظمة اللهية و أن يستفيد من الفيوضات الربانية .
فالإنسان في قوس صعود و نزول , و من خلال ذلك يتبين لنا السر في شوقنا إلى تلك العوالم , و تحديدا إلى الصادر الأول و المظهر الأتم للإسم الأعظم ذلك الموطن الأصلي الذي إنحدرنا منه و نظل نهفو إليه , " فاجعل افئدة من الناس تهوي اليهم " و لك أن تتأمل كثيرا في قوله صلى الله عليه و آله الأطهار , حب الوطن من الإيمان , فأي وطن عناه ؟ و أي إيمان يكون من ذلك الحب ؟ و من هنا يمكنك أن تستنير بإضاءة و إشراقة جديدة من الحديث الشريف للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله الأطهار حيث يقول , أنا و علي أبوا هذه الأمة , فتأمل في ذلك كثيرا .
فالأسفار الأربعة للإنسان تعني بإيجاز , السفر في درجات و سلّم الوجود , حيث السير من مرحلة إلى مرحلة أخرى و هكذا حتى يصل العبد السالك إلى غايته المنشودة , أعني الحق سبحانه و تعالى , فهو غاية الغايات , على حد تعبير أميرنا و سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبيطالب سلام الله و صلواته عليه :
" كان ربي قبل القبل بلا قبل ، و بعد البعد بلا بعد ، و لا غاية و لا منتهى لغايته ، انقطعت الغايات عنده فهو منتهى كل غاية " ( أصول الكافي الشريف ج 1 ص 89 ح 5 )
هذا و الشواهد القرآنية و الروائية و الأدلة العقلية القاطعة تثبت أن الإنسان لم يأت إلى هذه الدنيا ليقف عندها و فيها , و إنما جاء هنا ليبدأ مسيرته الكبرى نحو الله سبحانه و تعالى .
ففي مناجاة المريدين لسيد الساجدين و زين العابدين سلام الله و صلواته عليه نقرأ :
" فَأَنْتَ لاَ غَيْرُكَ مُرادِي، وَلَكَ لا لِسِواكَ سَهَرِي وَسُهادِي، وَلِقاؤُكَ قُرَّةُ عَيْني، وَوَصْلُكَ مُنى نَفْسِي، وَإلَيْكَ شَوْقِي، وَفِي مَحَبَّتِكَ وَلَهِي، وَإلى هَواكَ صَبابَتِي، وَرِضاكَ بُغْيَتي، وَرُؤْيَتُكَ حاجَتِي، وَجِوارُكَ طَلَبِي، وَقُرْبُكَ غايَةُ سُؤْلِي "
و كذلك نقرأ في مناجاة المفتقرين :
" وَغُلَّتِي لا يُبَرِّدُها إلاَّ وَصْلُكَ، وَلَوْعَتِي لا يُطْفِيها إلاَّ لِقآؤُكَ، وَشَوْقِي إلَيْكَ لا يَبُلُّهُ إلاَّ النَّظَرُ إلى وَجْهِكَ، وَقَرارِي لا يَقِرُّ دُونَ دُنُوِّي مِنْكَ "
و أخيرا بودي الإشارة إلى مدخلية الولاية في إظهار هذه القابليات المودعة في الإنسان
نور الولاية و تأثيرها في ظهور الحقائق و المخفيّات وبروز القابليّات الممكنات
الولاية تُظهر السرائر السليمة و السيّئة
من وجهة نظر اشعاع نور الولاية و ظهور الحقائق و المخفيّات وبروز القابليّات، و هذه المرحلة تحتاج إلی الدقّة و التأمّل؛ و لإيضاح هذه المرحلة نذكر مقدّمة بعنوان مثال و شاهد:
من المعلوم و المشهود انّ الشمس تبتعد في فصل الشتاء عن الارض، فتفقد الارض بعض حرارتها، و تفقد جميع ءاثارها و تجليّاتها، إذ تصبح كئيبةً باردة و تفقد ءاثارها الحياتيّة فليس فيها ظهور لخواص الموجودات او ءاثارها، فالاشجار يابسة لا ورق فيها و لا ثمر، كأنّها أخشاب يابسة مغروسة في الارض، تقف اشجار التفاح و الكمثري والرمّان و المشمش و الجوز و الاشجار غير المثمرة كلّها سواءً و في رديف واحد، لا يميّزها عن بعضها شيء، إذ ليس فيها من ظهور أو فعلیة، كما انّ قابليّاتها الكامنة غير مرئيّة، لذا فانّها تقف في منزلة واحدة و تُعدّ أخشاباً يابسة لا ضرر و لا نفع لها.
كما ان الاوراد و الشقائق ذابلة كلّها و منكمشة بلا أثر، فلا ورد إلیاس و الرازقي يفوح بالعطر، و لا النباتات ذات الرائحة الكريهة تبعث برائحتها؛ لا طراوة هناك في الوردة الحمراء، و لا أوراد الدفلي ذات الرائحة النفّاذة لها أثر من ذلك.
البلابل و طيور الكناري و طيور الزاغ و العُقبان قد انسحبت إلی أعشاشها و أوكارها، و الافاعي و العقارب قد سبتت و رقدت هي الاخري مع الطيور البديعة الرائعة و تهاوت في جحورها و أعشاشها متثاقلة بلا حسّ.
و ما ان تقترب الشمس بأشعتها التي تغمر العالم مع حلول الربيع، وتُرسل إلی الارض بأشعتها الباعثة علی النشاط و الحياة، فانّ تلك القابليات الكامنة ستصل إلی مرحلة الفعلیة، فتبدأ شجرة التفّاح بإرسال أغصانها وأوراقها و ثمارها الحلوة الحمراء المعطّرة مزيّنةً جوّ الحديقة، ويظهر من شجرة الكمثري هذه الفاكهة الخاصّة، و تُعلن شجرة المشمش بمنظرها الزاهي المحبّب و ثمارها الصفراء العطرة اللذيذة ميزتها الوجوديّة عن سائر ما يجاورها في الحديقة.
كما انّ الاشجار غير المثمرة و الاشجار ذات الثمار المرّة أو الفجّة الحامضة و الضارّة مثل بعض أشجار الغابات ستُعلن عن تفاهة شخصيّتها وأثرها، و تطأطيء رؤسها أمام الاشجار الاخري فليس لها بَعْدُ من مجالٍ للغرور و الاستكبار و التعإلی.
كما ان الطيور و البلابل ستنشغل و تنهمك بالتغريد في فضاء الحدائق، بينما تحلّق طيور الزاغ و العُقبان باحثةً عن الجيف، و تظهر الافاعي والجرذان و العقارب و تُعلن عن وجودها متحرّكةً بين الصخور والانهار.
و كلّ ذلك بتأثير أشعّة الشمس و ظهور دفئها الباعث علی الحياة والنشاط، فحين تبزغ الشمس فانّ كلّ موجود يُظهر قابليّته و يُبرز مراحله الكامنة، بينما لم يكن هناك فرق بين الموجودات قبل طلوع الشمس و قبل بزوغ اشعاعها.
و هكذا الامر بالنسبة إلی شمس الولاية، فقبل أن تطلع و تشرق علی القلوب و الافئدة، و قبل أن تأمر و تنهي، فانّ البشر سيعيشون في مستوي واحد، فلا تفاوت بين الشقيّ و السعيد، و لا بين أهل الجنّة و النار، و لا بين مؤمن و كافر، و لا بين عادل و فاسق، و لا بين محبّ و مُبغض، و لا بين موحدّ و مُشرك:
كَانَ النَّاسُ اُمَّةً وَ حِدَةً
كانوا كلّهم في مستوي واحد، و ما أكثر ما كان يحصل ان يعدّ الاشقياء أنفسهم أفضل من السعداء و يفتخرون بذلك؛ ولكن ما ان طلعت شمس الولاية و أشرقت علی الارواح الكئيبة، حتّي بعثت الحركة و النشاط في النفوس و أظهرت غرائز و سرائر و ضمائر كلّ إنسان، فطووا باختيارهم طريق السعادة فأوصلوا كلّ القابليّات النورانيّة إلی مرحلة الفعلیة؛ أمّا الاشقياء فانّ خُبث السريرة سيظهر بسبب تمرّدهم و إنكارهم و جحودهم القلبيّ، و ستظهر الاثار القبيحة السيّئة لهم في مرحلة الفعل و القول.
و هكذا فانّ أصحاب الفطرة السليمة سيتراصّون في صفوف العبوديّة، و سيملئون الدنيا تواضعاً و إنفاقاً و إيثاراً و رحمةً و إنصافاً وترحّماً علی الايتام و صدقاً و صفاءً و عدلاً و توحيداً.
امّا أصحاب الفطرة السيّئة فانّهم سيشكّلون صفوف الفجور والفسق، فيملاون الدنيا خيانةً و قبحاً و قساوة و اغتصاباً للحقوق و الاموال، و كذباً وظلماً و شِركاً:
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَ يَحْيَي' مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَهَ لَسَمِيعٌ علیمٌ
و بعبارة أخري فلانّ الإمام هو روح القرءان و حقيقته، و كما انّ القرءان شفاء و نور و رحمة للمؤمنين، و سببٌ لرقيّهم و كمالهم، بينما هو في الوقت نفسه ظُلمة و خسران و وبال للظالمين و سببٌ لزيادة قسوتهم وظلمهم، فانّ وجود الإمام علیه السلام له هذا الاثر و الخاصيّة أيضاً.
وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَ رَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ الظَّـ'لِمِينَ إلاَّ خَسَارًا
انّ الايات القرءانيّة تُقرأ علی المؤمن و توجب رفع مقامه و منزلته بناءً علی تقبّل قلبه و خضوعه و خشوعه و ازدياد إيمانه و توكّله، لكنّها عندما تُقرأ علی الكافر فانّها ستسبّب زيادة ظلمته و خُسرانه بسبب جحود قلبه و إنكاره و تمرّده.
حين تشرق شمس الولاية علی قلوب المؤمنين كمصباح منير، فانّهم سيفيدون من تلك الحرارة و النور، و سيتصاعد العطر المنعش من أرواحهم و أسرارهم فيعطّر فضاء عالم الإنسانيّة، امّا قلوب الكافرين فتصبح متعبة كدرة، و ستزكم رائحة التعفّن الكامنة فيهم أنوف الإنسانيّة، وتسبب الملل و الضجر للعقل و الحق.
انّ الامام سيظهر، من وجهة نظر ملكوت البشر و قلوبهم، كلّ استعداد فيهم و يوصله إلی مقاصده، فيوصل المؤمنين إلی الجنّة و يُرسل الكافرين إلی النار، و يحرّك كل موجود من وجهة نظر ملكوته في طريق وصراط يتناسب معه.
ما مِن دَآبَّةٍ إلاَّ هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي علی' صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ
انّ لكلّ فرد من المؤمنين مقاماً معلوماً في الجنّة، كما انّ هناك لكلّ كافر مكاناً معلوماً في النار، و الوصول إلی هذه الغاية يتمّ بواسطة الامام الذيء يهدي كلّ شخص في مسيره و هدفه من وجهة نظر التكوين؛ امّا من وجهة نظر التشريع، و بسبب القبول و الرفض الذي يجعل الكافرين والمؤمنين في صفّين متقابلين مختلفين، فانّه سيقود كلاّ منهما إلی كمال استعداه .
تلخيص و نتيجة
من ما مر قد عرفنا أن الإنسان في سير إلى الله عز و جل و هناك سير تكاملي إختياري , و يحتاج إلى جناحين العقيدة الصحيحة و العمل الصالح , و عرفت من خلال بيان مقتضب لقاعدة إتحاد العاقل و المعقول أن الإعتقاد الصحيح ينمي الإنسان و يرقي به إلى الأعلى , و عرفت هذا الصعود و هذه الحركة هي نحو ولي الله الأعظم الذي هو المظهر الأتم للإسم الأعظم , و هو الموطن للإنسان , و لأجل هذا الصعود و هذه الحركة تحتاج إلى معرفة , و المعرفة تحتاج بأن يعقد عليها القلب , و هذا مستلزم للطهارة و نقاوة و صفآء في الروح , و الولاية التي هي من أعظم المطهرات , كما في زيارة سيدتنا فاطمة الزهرآء سلام الله عليها , هي من أنجع ما يتطهر الإنسان بها , و الآن جاء الدور بعد هذه المقدمة الطويلة أن نقول أن الزيارة هي إحدى الطرق المؤثرة السريعة في إظهار الولاء و التطهير الروحي و الرقي نحو الكمال , من خلال الإستمداد من ولي الله الأعظم الذي تحضر بحضرته و تتأدب فيه بآداب الزيارة , و تعقد قلبك بما تصفه به من اوصاف و تخاطبه به من كمالات , فإن قرنت ذلك بالإعتقاد الراسخ و العمل الصالح , كان الإتحاد , فسموت إلى مراقي الكمال , بفيض يتقبله وجدانك حيث صار إنسانيتك من قوة إلى فعل , بنظرة رحمة من المعصوم صلوات الله عليه , بزيادة قابليتك , فتقلل من الإنفعالية و تزداد في الفعلية , فلا تكون فقط منفعلا و متأثرا بالغير , بل تكون فاعلا و تؤثر في الغير , فإن الزيارة و نصها إنما هو درس في معرفة المعصوم عليه السلام و إعتقاد القلب بهذه المعرفة , و بذا أكون قد ألمحت شيئا إلى معنى الزيارة, و لساني كليل عاجز عن درك حقيقة معناها ।
----------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد و آل محمد الأطيبين الأطهرين
و اللعنة الدآئمة الوبيلة على أعدآئهم و ظالميهم أجمعين
بعد أن قطعت معك مشوارا في بيان بعض ما يتعلق بمعنى الزيارة و معنى الحضور بين يدي المعصوم عليه السلام , أحب أن أورد هنا كلمة للسيد الإمام الخميني قدس الله سره الشريف بخصوص رجوع الكائنات و المخلوقات إلى الإنسان الكامل سلام الله عليه
حيث أرى أن له مدخلية كبيرة في هذا البحث و فيه فائدة جلية في أن يفتح آفاق نظرك حول هذه المسئلة :
يقول قدست نفسه الزكية في كتابه الآداب المعنوية للصلاة صفحة 417 :
" حيث أن تربية نظام عالم الملك من الفلكيات والعنصريات والجوهريات والعرضيات مقدمة وجود الانسان الكامل ، وفي الحقيقة هذه الوليدة عصارة عالم التحقق والغاية القصوى للعالمين ولهذه الجهة صارت الوليدة الأخيرة ، وحيث أن عالم الملك متحرك بالحركة الذاتية الجوهرية وهذه الحركة ذاتية استكماليا فأينما انتهت فهو غاية الخلقة ونهاية السير، فاذا نظرنا بالطريق الكلي الى الجسم الكلي والطبع الكل والنبات الكل والحيوان الكل والانسان الكل ، فإن الانسان هو الوليدة الأخيرة التي وجدت بعد الحركات الذاتية الجوهرية للعالم وانتهت الحركات اليه ، فيد التربية للحق تعالى فيد التربية للحق تعالى قد ربّت الانسان في جميع دار التحقق والانسان هو الأول والآخر .
تنبيه آخر :
وهذا الذي ذكرناه في الأفعال الجزئية وبالنظر الى مراتب الوجود والا فبحسب الفعل المطلق ليست لفعل الحق تعالى غاية سوى ذاته المقدسة كما هو مبرهن في محالّه ، واذا نظرنا الى الأفعال الجزئية أيضا فغاية خلقة الانسان عالم الغيب المطلق كما ورد في القدسيات " يابن آدم خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي " .. وفي القرآن الشريف يخاطب موسى ابن عمران على نبينا وآله وعليه السلام ويقول " اصطنعتك لنفسي " (طه - 40 ) . وأيضا يقول: "وأنا اخترتك " ( طه - 13 ) . فالانسان مخلوق لأجل الله ومصنوع لذاته المقدسة وهو المصطفى والمختار من بين الموجودات ، وغاية سيره الوصول الى باب الله والفناء في ذات الله والعكوف لفناء الله ومعاده الى الله ومن الله وفي الله وبالله كما يقول سبحانه في القرآن : " إنّ الينا ايابهم ".. وسائر الموجودات بواسطة الانسان ترجع الى الحق تعالى بل مرجعها ومعادها الى الانسان كما يقول في الزيارة الجامعة المظهرة لنبذة من مقامات الولاية " واياب الخلق اليكم وحسابكم عليكم " . ويقول : " بكم فتح الله وبكم يختم " .. وفي قول الله تعالى : " إنّ إلينا ايابهم ثم إنّ علينا حسابهم ( الغاشية - 25 ) .. وقوله عليه السلام في الزيارة الجامعة " واياب الخلق اليكم وحسابهم عليكم " سر من أسرار التوحيد واشارة الى أن الرجوع الى الانسان الكامل هو الرجوع الى الله لأن الانسان الكامل فانٍ مطلق وباقٍ ببقاء الله وليس له من عند نفسه تعيّن وإنّيّة وأنانية بل هو نفسه من الأسماء الحسنى وهو الاسم الأعظم .
كما ان الاشارة الى هذا المعنى كثيرة في القرآن والأحاديث الشريفة وان القرآن الشريف قد جمع من لطائف التوحيد وحقائقه وسرائره ودقائقه ما تتحير فيه عقول أهل المعرفة وهذا هو الاعجاز العظيم لهذه الصحيفة النورانية السماوية لا أن حسن التركيب ولطف البيان وغاية الفصاحة ونهاية البلاغة وكيفية الدعوة والأخبار عن المغيبات وأحكام الأحكام واتقان التنظيم للعائلة وأمثالها فحسب التي يكون كل واحد منها باستقلاله اعجازا فوق الطاقة وخارقا للعادة بل يمكن أن يقال أن معروفية القرآن بالفصاحه واشتهار هذا الاعجاز من بين سائر المعجزات في الآافاق لانه كان للأعراب في الصدر الأول هذا التخصص وأدركوا هذه الجهة من الأعجاز فحسب ، وأما الجهات الأخرى المهمة التي كانت فيه وكانت جهة اعجازها أرفع ، وأساس ادراكها أعلى فلم يدركها أعراب ذلك الزمان ، والحال ايضا أن المتحدين معهم في أفق الفهم لا يدركون من هذه اللطيفة الالهية سوى التركيبات اللفظية والمحسنات البديعة والبيانية ، أما المطلعون لأسرار المعارف ودقائقها والخبراء بلطائف التوحيد والتجريد فوجهة نظرهم في هذا الكتاب الإِلهي وقبلة أمالهم في هذا الوحي السماوي انما هي معارفه وليس لهم توجّه كثير الى الجهات الأخرى . ومن نظر الى عرفان القرآن وعرفاء الاسلام الذين اكتسبوا المعارف من القرآن وقايس بينهم وبين سائر علماء الأديان وتصنيفاتهم ومعارفهم يعرف حد معارف الاسلام والقرآن التي هي أساس الدين والديانة والغاية القصوى لبعث الرسل وانزال الكتب ويصدق بلا مؤونة أن هذا الكتاب وحي الهي وهذه المعارف معارف الهية .
ايقاظ ايماني :
اعلم أن الربوبية الحق جلّ شأنه للعالمين على نحوين :
الأول : الربوبية العامة التي تشارك فيها جميع موجودات العالم وهي التربية التكوينية التي توصل كل موجود من حد النقص الى حدّ الجمال اللائق له تحت تصرف الربوبي وتقع جميع الترقيات الطبيعية والجوهرية والحركات والتطورات الذاتية والعرضية تحت التصرفات الربوبية .
وبالجمله ، التربية التكوينية من منزل مادة المواد والهيولى الأولى الى المنزل الحيواني وحصول القوى الجسمانية والروحانية الحيوانية ، وانّ كلا منها يشهد بأن الله جلّ جلاله ربي .
والثاني من مراتب الربوبية ، الربوبية التشريعة المختصة بالنوع الانساني وليس لسائر الموجودات فيها نصيب ، وهذه التربية هي هداية الطرق النجاة واراءة سبل السعادة والانسانية والتحذير من منافياتها قد أظهرها الله سبحانه بتوسط الأنبياء عليهم السلام ، فاذا وقع انسان بقدمه الأختيارية تحت تربية رب العالمين وتصرفه وصار مربى بتلك التربيه بحيث لم تكن تصرفات أعضائه وقواه الظاهرية والباطنية تصرفات نفسانية بل كانت تصرفات الهيه وربوبية يصل الى مرتبة الكمال الانساني المختص بالنوع الانساني .
ان الانسان الى أن يصل الى منزل الحيوانية يكون متماشيا مع سائر الحيوانات ومن هذا المنزل يكون أمامه سبيلان لابد أن يسلكهما بقدم الاختيار ، احداهما طريق السعادة وهي الصراط المستقيم لرب العالمين ، ان ربي على صراط مستقيم .
والثانية : طريق الشقاوة وهو الطريق المعوّج للشيطان الرجيم فإن جعل قواه وأعضاء مملكته في تصرّف رب العالمين وصار مربى بتربيته فيسلم القلب وهو سلطان هذه المملكة له واذا صار القلب مربوبا لرب العالمين فيقتدي سائر جنوده له وتصير المملكة كلها مربوبة له ، وفي هذا الوقت يتمكن لسانه الغيبي وهو ظل القلب أن يجيب ملائكة عالم القبر حين تقول له من ربك ؟ بأن : الله جلّ جلاله ربي . وحيث أن هذا الشخص قد أطاع رسول الله واقتدى بأئمة الهدى وعمل بكتاب الله فينطق لسانه بقوله : محمد صلى الله عليه وآله نبيّي ، وعليّ وأولاده المعصومون أئمتي والقرآن كتابي ، لكنه إذا لم يصر القلب الهيا وربوبيا ولم ينتقش نقش لا اله الا الله ومحمد رسول الله وعلي ولي الله على لوح القلب ولم يصر صورة باطنية للنفس ولم ينتسب الى القرآن بالعمل به والتفكر والتذكر والتدبّر فيه ولم يرتبط هو بالقرآن ارتباطا روحيا ومعنويا ، ففي سكرات الموت وشدائده وفي حال الموت الذي هو الداهية العظمى تنمحي جميع المعارف عن خاطره .
أيا عزيزي ، ان الانسان ينسى جميع معلوماته عند ابتلائه بمرض أو ضعف قواه الدماغية الا أمورا قد صارت بشدة التذكر والأنس بها جزء من فطراته الثانوية ، واذا دهمته داهية عظمى ومخوفة فيغفل عن أكثر أموره ويخط خط النسيان على معلوماته ، فماذا يكون حاله في أهوال الموت وشدائده وسكراته ، واذا كان سمع القلب غير منفتح ولم يكون قلبه سميعا فلا ينفعه تلقين العقائد حين الموت وبعد الموت ، والتلقين ينفع لمن يكون قلبه خبيرا بالعقائد الحقه ويكون سمع قلبه منفتحا ، وقد حصلت له غفلة ما في تلك السكرات والشدائد فيصير التلقين وسيلة الى أن يوصلها ملائكة الله الى سمعه ، ولكن اذا كان الانسان أصم ولم يكن له سمع عالم البرزخ ابدا فلا يؤثر التلقين في حاله ، وقد أشير الى بعض ما قلناه في الأحاديث الشريفة . "
إنتهى النقل
-------------------------------------------------------
لا بأس بالإشارة مرة أخرى إلى إرتباط العمل بالعامل , حيث كنت قد ذكرت منه شيئا , و لكن و بعد مراجعتي , رأيت أنه من الأفضل أن أوسع المفهوم أكثر لكي يكون أكثر شمولية و وضوحا إن شاء الله , و ذلك ليس للمدخلية الرئيسية في هذه الإضافة في سير البحث , و لكن رغبة مني في أن أذكرها هنا .
إن الكيفية التي يرتبط بها العمل بعامله تمرّ بمراحل ثلاث هي :
الحال ثم الملكة ثم الإتحاد أو التحقق .
المرحلة الأولى : الحال
و نعني بها حصول حالة معينة لدى الإنسان بعد قيامه بعمل ما و لكن هذه الحالة سرعان ما تزول بزوال المؤثّر , و هي من قبيل صفرة الخوف و حمرة الخجل و من قبيل أن يسمع الإنسان موعظة في مسجد ما و تحصل لديه حالة نفسية معينة كحبٍّ للإنفاق أو رغبة في الجهاد أو خوف من الموت , و لكن هذه الحالة سرعان ما تزول بمجرّد أن يخرج من المسجد و تمرّ على الموعظة فترة زمنية قصيرة .
المرحلة الثانية : المَلَكة
و نعني بها إشتداد الحالة السابقة و قوتها في وجود الإنسان بحيث يتعذر أو يتعسر زوالها , كملكة الشجاعة في الشجاع و ملكة العدالة في العادل , و إذا زالت هذه الملكات فإنها سرعان ما تعود . إن الملكات الإنسان تحصل من خلال العمل , و الروايات الكثيرة تدل على أن العمل ملازم لعامله و لا ينفك عنه , و إنه في الآخرة حيّ ناطق .
المرحلة الثالثة : الإتحاد أو التحقق
و هي المرحلة التي تكون فيا الملكة جزءاً من وجود الإنسان بحيث لا يمكن زوالها منه , و هي أول درجات العصمة , و لذا لا يمكن تصوّر صدور المعصية – مثلا – من المعصوم صلوات الله و سلامه عليه , لأن ملكة العدالة قد إشتدت فيه حتى صارت جزءا من وجوده المبارك .
و يمكن تقريب هذه المراحل الثلاث من خلال مثال يضربه علماؤنا في هذا المقام , فلو أخذنا فحمة سودآء و وضعناها على النار , لمرت هذه الفحمة بمراحل ثلاث , الأولى تصبح حارة مع بقائها فحمة سودآء , و لو
زالت عن النار عنها فسرعان ما ترجع إلى ما كانت عليه , و هذه هي مرحلة " الحال " ثم يتحوّل ظاهر الفحمة إلى نار مع بقاء باطنها فحمة سودآء , و لو زالت النار عنها , فإن رجوعها إلى حالتها الأولى متعسّر أو بطيئ , و هذه هي مرحلة " الملكة " ثم لو بقيت تلك الفحمة على النار لتحوّلت إلى جمرة من النار حيث لا يمكن بعدها زوال النارية عنها و لو زالت النار عنها لما رجعت إلى طبيعتها الفحمية , و هذه هي مرحلة "الإتحاد أو التحقق " .
إذن تبيّن أن إرتباط الإنسان بمعلمه يمر بمراحل ثلاث , صالحا كان العمل أو طالحا , فالعمل الصالح كالصلاة أو الصوم أو إصلاح ذات البين أو الأإنفاق في سبيل الله له ظاهر و له باطن , كما هذا واضح لمن له أنس بالروايات المعصومية الشريفة , و باطنه هو الجنة و الروح و اليحان , فإذا التحد العمل مع الإنسان كان الإنسان هو الجنة لا أنه يدخل الجنة , " فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ " و ورد , إن الجنة لأشوق إلى سلمان من سلمان إلى الجنة , و ورد يا علي أنا مدينة الحكمة – و هي الجنة – و أنت يا علي بابها , و ورد عن الصادق عليه السلام أنه قال " ولايتنا هي الجنة " .
كل هذا بشرط أن يكون هناك إتحاد بين العامل و عمله و بين الإنسان و ملكاته ليكون هو الجنة , و من هنا كانت الصديقة الكبرى سيدة نسآء العالمين فاطمة الزهرآء سلام الله و صلواته عليها , جنّة , حتى ورد عن النبي الأعظم صلى الله عليه و آله الأطهار , " فإذا إشتقت إلى الجنة شممت رآئحة فاطمة " فهي صلوات الله عليها جنّة , و له صلى الله عليه و آله الأطهار من الشم الباطني ما يستطيع به شمّ رائحة الجنة .
و هكذا إذا صار الإنسان عالما حقيقيا , كان النظر إلى وجهه عبادة لأنه يكون حينئذ نظرا إلى الجنة , و منظره يذكّر بالله سبحانه و تعالى و رآئحته تفوح منها رائحة الجنة لمن يستطيع أن يشم , و يحضرني حديث الكسآء , إني أشم رآئحة جدي رسول الله صلى الله عليه و آله الأطهار .
و مثل هذا ما ينقل عن بعض أولياء الله الذين يرون الناس على صور مختلفة , و ما هذا في واقعه إلا رؤية لأعمال أولئك الناس التي إتحدت معهم فصارت تلك الملكات حقيقة لهم .
و مثل هذا الأمر جار في العمل الطالح الذي له ظاهر و باطن أيضا , فأكل مال اليتيم الطيب الذيذ في ظاهر , و لكن باطنه نار موقودة " ان الذين ياكلون اموال اليتامى ظلما انما ياكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " و إذا إفترضنا هذا الجزآء صار جزءا من وجود الإنسان فإن الإنسان سيكون هو قطعة من نار و سيدخل النار , " نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ " إذ تحرق الباطن لتخرج إلى الظاهر عكس حالها في الدنيا . و قد ورد أن بعض المجرمين الذين هم من أهل التابوت عندما يفتح عنهم الغطآء عنهم يئن أهل جهنّم من حرارة ذلك التابوت لأنهم هم قطعة من النار و أُدخلوا النار أيضا .
ثم إن كثيرا من الأعمال الإجرامية لا يستطيع أن يقوم بها كل أحد , كقتل المعصوم عليه أفضل الصلاة و السلام , و لا بد أن تصل الجريمة و الخباثة في هذا الإنسان القاتل إلى درجة عالية بحيث تكون جزءا من وجوده ليقدِم على عمل كهذا , و قد عبّر القرآن الكريم عن أمثال هؤلاء بقوله تعالى : " بلى من كسب سيئة واحاطت به خطيئته فاولئك اصحاب النار هم فيها خالدون " بحيث لا يرى بعد ذلك الخطيئة خطيئة بل يراها عملا حسنا " وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا "
و قد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة و أن الأعمال قد تكون حالات أو ملكات أو جزءا من وجود الإنسان , كما في قوله تعالى : " الذين امنوا وعملوا الصالحات " حيث وصف عملهم بالصالح , و أما هم فمسكوت عنهم و لعلّ الجزآء هنا بنحو الحال أو الملكة .
أما في في قوله تعالى : " واولئك من الصالحين " إشارة إلى أن هؤلاء ليس عملهم صالحا فقط , و إنما ذاتهم صالحة أيضا لأن الصلاح أصبح متحداً معها , و من الواضح أن الذات لا يصدر عنها إلا ما ينسجم مع طبيعتها " قل كل يعمل على شاكلته " و في هذا السياق ما ورد بشأن إبن نوح , قال تعالى : " إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح " أي أن وجوده وجود غير صالح , لا أن عمله غير صالح فقط .
و من هنا تجد أن الأنبيآء صلوات الله عليهم أجمعين وصفوا بالصالحين : " وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين "
ثم إن أعمال الإنسان الطالحة حينما تكون " حالا " كفي بضغطة القبر أو عذاب البرزخ مطهّرا له , فيأتي يوم القيامة و هو طاهر , أما إذا إشتدت هذه الحالة و تحوّلت إلى " مَلَكة " فلا تكفي ضغطة القبر و لا عذاب البرزخ لتطهيره ,بل لابد له من أن يدخل النار يوم القيامة لكي يطهر بها إن كان موحّدا , و إلا فإنه لن يخرج منها لأنه قطعة منها । و هكذا بمقدار إشتداد الملكات الطالحة فينا يكون مقدار عذابنا من حيث الشدة و الطول .
-------------------------------------------------------------------------
سُئلت :
فأجبت :
بشأن أسئلتكم الكريمة , فإن شاء الله إني مجيبكم عليها على قدر إستطاعتي في ما يأتي من الأيام إن شاء الله تعالى , و أسئل الله أن يخرجني من هذه المحنة بنجاح و توفيق حتى أتفرغ لكتابة هذا الشرح إن شاء الله , و أرجوا منكم أن لا تنسوني من صالح دعواتكم بالتوفيق و النجاح لهذا الفقير بحق فاطمة الزهرآء سلام الله عليها .
---------------------------------------------------
اللهم صل على محمد و آل محمد الأطيبين الأطهرين
و اللعنة الدآئمة الوبيلة على أعدآئهم و ظالميهم أجمعين
السلام على الحسين و على علي بن الحسين و على أولاد الحسين و على أصحاب الحسين عليهم السلام
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
هذا الموضوع خصصته لشرح زيارة عاشورآء العظيمة , و لا أدعي في هذا الشرح أني أصيب كبد الحقيقة , بل كل ما أقوله هو أنني أردت أن يكون لي في آخرتي ذخرا ليبيض وجهي أمام سيد الشهدآء سلام الله عليه , و أغلب ما أورد في هذا الشرح هو نتيجة مطالعاتي في كتب أعلامنا و علمائنا الأبرار رحمهم الله جميعا , فأحاول ترتيبها و في بعض الأحيان أضيف عليها موارد أراها نافعة للموضوع , و إني أود أن أؤكد مرة أخرى بأني لست أدعي أي شيئ و لا أدعي أني أصبت كبد الحقيقة , فلذا لا ألزم و لا أجيز لأحد أن يتبنى أي شيئ مما أكتبه قبل أن يتأكد هو بنفسه من صحتها و موافقتها مع الشرع الحنيف, إن كتابة هذا الشرح عمل مضني و إن يبدوا الأمر سهلا و لكنه يأخذ الكثير من الوقت و الجهد من حيث ترتيب الأفكار و الأوراق لذا فإن من الممكن أن يأخذ هذا المشوار وقتا ليس بالقصير , و في نهاية المطاف إن شاء الله و بعد الإنتهآء من الشرح سأورد قائمة عن المصادر التي إعتمدتها في هذا الشرح الذي أرجوا الله أن يوفقني لإتمامه .
و أخيرا و ليس آخرا
آمل منكم أن لا تنسوا هذا العبد الفقير من خالص دعواتكم له بالتوفيق و النجاح بحق فاطمة الزهرآء سلام الله عليها
آمل منكم أن لا تنسوا هذا العبد الفقير من خالص دعواتكم له بالتوفيق و النجاح بحق فاطمة الزهرآء سلام الله عليها
اللهم تقبل منا بحق محمد و آل محمد
و أهدي هذا الشرح البسيط القليل إلى سيدي و مولاي و إمام زماني قرة عيوننا و حبيب قلوبنا سيدنا و مولانا حجة الله بن الحسن العسكري عجل الله فرجه الشريف و جعلنا الله من خلص أصحابه و أنصاره و خدامه و المستشهدين بين يديه بحق محمد و آل محمد الأطيبين الأطهار , يوم ننادي يا لثارات الحسين عليه السلام .
يا أيها العزيز جئناك ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل و تصدق علينا إنا نراك من المحسنين
يا علي
يــا عـــلـــــــــي
----------------------
ملاحظة مهمة :
كنت قد بدأت بهذا الشرح في منتديات شبكة هجر الثقافية , تحت عنوان " بارقة النور في شرح زيارة عاشور " إلا أني و لمناسبة حديث الشريف : إن الحسين مصباح الهدى و سفينة النجاة , إرتئيت تغير إسم هذا الشرح إلى " مصباح الهدى في شرح زيارة عاشوراء , و أحببت تيمنا أن أبدأ هذا الشرح هنا , في يوم ميلاد شمس الشموس و أنيس النفوس مولانا الإمام أبالحسن علي بن موسى الرضا المدفون بأرض طوس صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين , و أسألكم جميعا خالص الدعآء بحق فاطمة الزهرآء سلام الله عليها .
لواء الحسين
و من الله التوفيق
يــا عـــــلـــــــــــي
------------------------------------------
11 عشر من شهر ذي القعدة يوم ميلاد إمامنا الضامن الرضا من آل محمد صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين سنة 1430
المقام الأول : معنى الزيارة و حقيقتها
الزيارة كما قد ذكر المجمع , زاره يزوره زيارة : قصده , و كذلك الزيارة من الزَّوَر وهو الإكرام والإحسان، والتَّزْويرُ: أن يكرم المزور زائره ويعرف له حقّ زيارته، وزاره أي أكرمه وأحسن إليه ومال إليه، و تزاورَ عنه أي مالَ عنه ومنه قوله تعالى: )وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ( [الكهف:17]، وقد زوَّرَ القومُ صاحبهم تزويراً: إذا أحسنوا إليه، والزُّور: جمع أزور من الزَّوَر وهو الميل. والزاير من دون همز الألف هو الحبيب، ومع الهمز (زائر) بمعنى الغضبان.
فاعلم : إن حقيقة الزيارة عبارة عن حضور الزائر عند المزور , و لم يؤخذ في حقيقتها بحسب العرف و اللغة شيئ زائد على ذلك .
فإن حقيقة هذا الحضور و التأدب في حضرة المحضورعنده تكون بالزيارة , و بلوغ المرء الغاية إنما هو بتحقيق هذا الحضور .
فإن الذي يزور أبي عبدالله الحسين عليه السلام كمن زار الله في عرشه , و ذلك لأن أجساد الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين لا تبقى في الأرض و ترفع إلى العرش , و كذلك فإن أبي عبدالله الحسين عليه السلام ينظر من يمين العرش إلى زواره , فإن هذه النظرة المعصومية الشريفة الرحيمة لها آثار تكوينة في تكامل هذا الزائر المُكرّم , فمن يأتي بحقيقة الزيارة سيرتقي إن شاء الله لحضور في عرش الله لزيارة أبي عبدالله الحسين عليه السلام , و هنا يجب أن لا تفهمه بالمعنى المادي البحت , بل الأمر على نسق قولنا أن الصلاة معراج المؤمن , و قد يساورك بعض الشكوك في قولنا أننا يجب أن لا نفهم الأمر على جانب مادي بحت و بين قولنا أن أجساد أئمتنا صلوات الله عليهم أجمعين لا تبقى في الأرض بل و ترفع إلى العرش , للجواب على هذا السؤال يجب علينا أن نتدبر في أحاديث الخلقة الطينية , فمن خلال التدبر في هذه الأحاديث و الروايات يتبين لنا أن مقام أجساد أئمتنا و شرافتها هي بمقام أرواح شيعتهم , إذ أن أرواح شيعتهم صلوات الله عليهم خلقت من فاضل طينة التي خلق منها أجساد أئمتنا عليهم السلام , و هذا الفارق موجب لكثير من الأحكام , فعلى هذا لا يبقى إشكال في البين , و يحل الإشكال الذي طرح .
و مضافا على هذا , إنه قد ورد في زيارات أخرى لسيد الشهدآء سلام الله عليه ما يشير إلى هذه الحقيقة , مثل "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَتْرَ اللَّهِ الْمَوْتُورَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الْخُلْدِ وَ اقْشَعَرَّتْ لَهُأَظِلَّةُ الْعَرْشِ وَ بَكَى لَهُ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ "
كما أنه يتحقق حضور عند الإمام عليه السلام في يوم المحشر و لكنه حضور الحساب و ليس حضور الزيارة , كما في الزيارة الجامعة الكبيرة الشريفة : وإياب الخلق إليكم وحسابهم عليكم .
--------------------------------------------
المقام الثاني : تحقق الحضور
إعلم إن الحضور لا يتحقق مع الغفلة , ولا بد من المعرفة , و المعرفة تحتاج إلى قابلية و القابلية تستلزم الطهارة , لأن الفيوضات و البركات التي يتلقاها الإنسان من ملكوت العالم هي بجهة توجهه التام , لأن الإنسان صرفا مبدأ قابل , و لا بد من أن ينمي قابليته إلى حد النصاب , حتى يتمكن من إدراك الإفاضات الربانية , و هذه القابلية منوطة بطاهرته الباطنية و صفاء روحه , و في مثل هذه الحالة من الحضور لا يؤذن حتى في نية المعصية و الذنب , فعليه يتجلى أن مبدأ تمام البركات هي في توجه التام و الحضور الدآئم ,
و في آيات الذكر الحكيم إشارات كثيرة إلى لزوم دوام الحضور و البُعد عن الغفلة
ولا تكونوا كالذين نسوا الله فانساهم انفسهم اولئك هم الفاسقون
وطائفة قد اهمتهم انفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية
واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والاصال ولا تكن من الغافلين
و كما قلنا أن لا بد من الحضور التام
و للحضور آداب , منها مادية , مثل عدم حضور الجنب , و منها المعنوية
الأول سهل و لا يتطلب الكثير من الجهد , و لكن الثاني هو الأهم , إن الطهارة الباطنية مفتاح سر كثير من الأمور و خارقة لكثير من الحجب .
و لا يفوتني أن أقف معكم هنيئة في محضر درس الأستاذ القدير و العارف الجليل الشيخ جوادي آملي حفظه الله تعالى يحدثنا عن الطهارة المعنوية :
الطهارة المعنوية
إن ما يقربنا إلى الله تعالى هو التجافي عن دار الدنيا، لأن الإنسان لا يمكنه الوصول إلى الله عز وجل مادام متعلقاً بالدنيا، إن دنيا الإنسان من منصب ومال وحب للنفس تحجبه عن الوصول إلى الله عز وجل، ولهذا يقول تعالى عندما يريد أن يبين أسرار العبادة: أريد أن أطهركم، والإنسان إذا لم يطهر لا يستطيع أن يصل إلى الله عز وجل، والقرآن الكريم ذلك الفيض الإلهي الذي أنزله تعالى لا يشمل إلا المطهرين: (إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون)، (الواقعة: 77 ـ 79) .
فالمطهرون فقط هم الذين ينهلون من معارف القرآن، والمطهرون الواقعيون هم الأئمة والقرآن الكريم يصفهم بقوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)، (الأحزاب: 33).
فلا يصل إلى عمق القرآن إلا المطهرون، فالأئمة هم الذين يعرفون عمق وحقيقة القرآن، وتلامذتهم ينهلون من معارف القرآن أيضاً، كل حسب طهارته.
القرآن يعتبر الطهارة سر العبادات، وما التعليمات والإرشادات القرآنية إلا لتطهير الإنسان، وليس المقصود من الطهارة، الطهارة الظاهرية،
وإذا كان الإنسان يتصور أن الوضوء بالماء وغسل ظاهر بدنه يطهره طهارة ظاهرية، فهذا غير صحيح لأن الطهارة تحصل بالتيمم بالتراب أيضاً، ومن هنا يظهر أن المقصود من الطهارة التي يريدها الله عز وجل هي الطهارة الداخلية، الطهارة من الأنانية وحب الذات.
من الممكن أن يطهر الماء بدن الإنسان طهارة ظاهرية، لكن ضرب اليدين على الأرض ومسح الوجه بهما يطهر الإنسان طهارة معنوية، ففي سورة المائدة آية تبين هذا المعنى للطهارة: (فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون). (المائدة: 6)
فاذا لم تجدوا الماء فامسحوا وجوهكم وأيديكم بالتراب لكي تتطهروا، يقول بعض الأكابر من العلماء: إن ضرب اليدين على الصخر المجرد الخالي من التراب مشكل لأن الآية الكريمة تقول: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)، فلابد من التصاق شيء من التراب بالوجه.
يقول تعالى: انه لا يريد بكم المشقة والعناء بل يريد أن يطهركم، فيظهر أن مسح الوجه واليدين يطهر الإنسان طهارة معنوية، يطهره من الغرور والأنانية، فلا يتكلم بكلام غير مرض، كأن يقول: إنني أرى كذا وكذا.
ومع أن الله عز وجل لم يترك نعمة إلا وأحصاها، فهو بحثنا على شكر النعم والتيمم نعمة من الله تستحق الشكر.
ليس هناك عدو للإنسان أكبر من العدو الداخلي، أي النفس، وليس هناك خبثاً أكبر من خبث النفس، ولهذا جاءت العبادات لانقاذ الإنسان من الأمراض النفسية، وكل تعاليم الدين الحنيف جاءت لتطهير الإنسان، فالإنسان يصلي ويصوم، ويجاهد من أجل أن يتطهر، ويستشهد من أجل أن يطهر، ويتحمل الصعوبات وويلات الحرب من أجل أن يكون نقياً وخالصاً من الغرور.
وكما أن للصلاة سراً، فكذلك الصيام، والطهارة واحد من تلك الأسرار، وللذهاب للقتال سر، وللحج سر، وكما أن المصلين ليسوا سواء في الدرجات، فكذلك الحجاج والمجاهدون، فلابد من أن نعمل عملاً نتفوق به بين المصلين والحجاج والمجاهدين.
هذه هي المهمة العالية التي علمتنا بأن الطريق إلى الله عز وجل مفتوح، وليس هو حكراً على أحد، أو مغلقاً بوجه أحد، نحن عندما ندعو بدعاء كميل في ليالي الجمعة نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أفضل عباده عنده، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الطريق إلى الله عز وجل مفتوح، "وأقربهم منزلة منك وأخصهم زلفة لديك"، دعاء كميل. فالطريق لم يغلق بوجه أحد.
إن همتنا ينبغي أن لا تكون في عدم الاحتراق بالنار، فعدم الاحتراق بالنار ليس فخراً، لأن الكثير من الناس لا يحترقون ولا يعذبون بالنار، كالأطفال والمجانين والمستضعفين الذين لا يعرفون الأحكام الإلهية، فليس الفخر في الخلاص من النار، وإنما الفخر والفضل في أن نكون أفضل العباد عند الله، وأن نكون قدوة للبشرية، أن يجعلنا الله تعالى في أعلى مقام يمكن أن يصله الإنسان، غير مقام الأنبياء والأئمة .
هكذا يجب أن تكون همتنا، ففي الحديث الوارد عن الحسين بن علي بن أبي طالب عن رسول أنه قال: "إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفاسفها"، فالله سبحانه يحب ذوي الهمم العالية والأفكار الصحيحة.
يجب أن لا يكون سعينا من أجل النجاة يوم القيامة من النار، وأن نعبد الله خوفاً من ناره "تلك عبادة العبيد"، فلقد جاءت الأحاديث التي تدعو إلى إحياء الهمم العالية والطلب منه تعالى معالي الأمور وأشرافها.
يعلمنا الحديث الوارد عن الحسين ـ والذي هو مصداق لسيرته ـ كيف نكون أصحاب همم عالية؟ كيف تكون الأمة أمة عالية، هذه الروح العالية والاباء العظيم تعلمه من جده رسول الله ، فالذي يتربى ويتعلم ويتخرج من مدرسة رسول الله لا يتذرع بالحجج الواهية، إنها كلمات الفداء والتضحية والشهادة وليس في عقيدة الإمامة والولاية معنى للخوف، ولا يمكن أن يتطرق الخوف لأولياء الله عز وجل.
لو تسنى لشخص ما أن يكون إنساناً أبدياً، وأن يصل إلى مقام سام، عندئذٍ يكون همه السعي للوصول لذلك المقام، نحن لسنا بصدد الحديث عن مقدار من الماء أو بقعة من الأرض، أو في كيفية الخلاص من النار، جميع التعالمي الدينية لها جانب روحي وجانب مادي، وجميع موارد الطهارة حتى التولي والتبري لا تخلو عن هذين الأمرين، وكذلك الحرب والجهاد، وإن الروحية العالية هي التي أوصلت الشهيد إلى ذلك المقام الرفيع.
إن القرآن الكريم هو الذي دلنا على الجانب الروحي للعبادات، لننطلق منه إلى معرفة بقية الأحكام، لقد بدأ القرآن الكريم بالطهارة وصولاً إلى بقية الأحكام الإلهية، والظاهر من هذه الأحكام أن الله عز وجل يريد للإنسان أن يكون عبداً له لا لسواه.
يقول الرسول بخصوص الصلاة: في كل وقت من أقاتها ينادي ملك "أيها الناس قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فأطفئوها بصلاتكم". من لا يحضره الفقيه (ج1، باب 30) فضل الصلاة الحديث 3.
إن الصلاة نهر صاف، وعين ماء الكوثر، فهي تطفئ النيران وتمنع من تجدد اشتعالها على الظهور، إنها تمحو الذنوب التي اقترفها الإنسان، وتمنعه عن ارتكابها مرثة ثانية، وهذه هي خاصية الصلاة، كما ذكرها القرآن الكريم: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون)، (العنكبوت: 45) .
ونقل عن الإمام الصادق : "أول ما يحاسب به العبد الصلاة فإذا قبلت قبل منه سائر عمله، وإذا ردت عليه رد عليه سائر عمله، فإذا صليت فأقبل بقلبك إلى الله عز وجل فانه ليس من عبد مؤمن يقبل بقلبه على الله عز وجل في صلاته ودعائه إلا أقبل الله عليه بقلوب المؤمنين إليه وأيده مع مودتهم إياه بالجنة"، من لا يحضره الفقيه (ج1، باب 30 حديث 5).
فأول ما يسأل عنه الإنسان الصلاة فإذا قبلت قبل كل عمله، لقد عرف القرآن الكريم الصلاة والمصلين، فالمصلي من ليس له طمع في الدنيا، ولا تشغله الأموال الت في عهدته عن العبادة، وغيره هم عباد الدنيا الذين وصفهم القرآن الكريم بقوله: (إن الإنسان خلق هلوعاً * إذا مسه الشر جزوعاً * وإذا مسه الخير منوعاً)، (المعارج: 19 ـ 21) .
وهذه هي الطبيعة البشرية، ولكن القرآن يستثني المصلين من أولئك الذين لهم هذه الطبيعة فيقول: (إلا المصلين). (المعارج: 22)
فالمصلون محفوظون من هذه الرذائل، والصلاة هي التي تطهر الإنسان منها، وتحفظه وتطهر ذاته لأنها مجلبة الفضائل ومنجية من الرذائل.
يقول الإمام الصادق : "إن العبد إذا صلى الصلاة في وقتها وحافظ عليها ارتفعت بيضاء نقية، تقول حفظتني حفظك الله، وإذا لم يصلها لوقتها ولم يحافظ عليها ارتفعت سوداء مظلمة تقول ضيعتني ضيعك الله". من لا يحضره الفقيه ج1، باب30، ح6.
من هنا يتبين أن للصلاة حقيقة، وحقيقتها أنها حية ولها روح خالدة، وهي تدعو للمصلي ودعاؤها مستجاب، وإذا لم يصل الصلاة لوقتها ترتفع سوداء وهي تدعو عليه.
إن أفضل حالات الصلاة، عندما يكون المصلين في السجود، يقول الصادق : كلما اقترب الإنسان بجبهته من التراب من الله عز وجل "أقرب ما يكون العبد إلى الله ـ عز وجل ـ وهو ساجد". من لا يحضره الفقيه ج1، باب30، ح7.
وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين ، أنه قال: "عجبت لشخص أمام بيته عين ماء يغتسل منها كل يوم خمس مرات ثم لا يكون طاهراً"،
قال: الصلاة مثل عين الماء الزلال تطهر المصلي الذي يصلي خمس مرات في اليوم، الصلاة كماء الكوثر تطهر الإنسان، وإذا لم نحس بالطهارة ولذة الصلاة، فلنعلم أن صلاتنا ليست على الوجه المطلوب.
من الممكن أن تكون صلاتنا صحيحة لكنها غير مقبولة، إنما تقبل الصلاة عندما تتطهر بواطننا وتحدث تغييراً في نفوسنا، يقول الصادق : "لا تجتمع الرهبة والرغبة في قلب إلا وجبت له الجنة". من لا يحضره الفقيه ج1، باب30، ح11.
إذا خاف الإنسان من ربه وكانت تربطه بالله رابطة قوية فثوابه على الله الجنة.
أحياناً يجعل الإنسان الله وسيلة للوصول إلى الجنة، وهذا ناشئ عن ضعف الهمة، والله سبحانه لا يحب مثل هذه الهمم، ولكن في بعض الأحيان لا يطلب الإنسان من الله شيئاً سوى لقائه ورضاه، وهنا يفيض الله عز وجل نعمه على مثل هذا الانسان، فإذا اجتمعت الرغبة والرهبة في قلب الإنسان كان ثوابه الجنة، وإذا احضر الإنسان قلبه في الصلاة، كان على حفظ عينه وأذنه خارج الصلاة أقدر، وإذا أطلق العنان لعينه وأذنه خارج الصلاة منعته تلك الخواطر وكانت له شغلاً شاغلاً عن حضور القلب عند الصلاة، فالمهم أن يحفظ الإنسان جوارحه أثناء الصلاة.
لقد أمرنا بتطهير الفم: "طهروا أفواهكم فإنها طرق القرآن"، وليس المقصود بتنظيف الفم تطهيره بالمسواك فقط، بل حفظ اللسان والفهم عن الفحش وقول السوء وأكل الشبهة، حفظ الفم عن كل كلام سيئ، لأنه طريق القرآن، فإذا كان القرآن عين ماء الكوثر، فلا يمكن أن يمر هذا القرآن من فم لم يطهر، وإذا مر منه فلا تترتب على ذلك أي فائدة، فما العبرة من تطهير الفم؟ إن العبرة والفائدة هي أن نتلو القرآن يسمعه الآخرون، وأن نستمع فنهتدي بنوره ونقتدي به.
إن الله سبحانه وتعالى يتفضل على عباده بالرحمة والنعم إذا توجهوا إليه بقلوبهم، فقبل التفضل بالنعم الإلهية، يجعل الله عز وجل قلوب الناس متجهة.
ما أحلى أن يكون الإنسان موضع قبول المؤمنين ورضا قلوبهم، ألا يحب الإنسان أن يكون حبوباً لدى المؤمنين؟ يسعى الجميع لمساعدته والدعاء له بالمغفرة والرحمة، فمتى يكون الإنسان مهوى قلوب المؤمنين؟ وفي أي حال يطلبه المؤمنون؟ إذا كان قلبه متعلقاً بخالقه، خصوصاً في وقت الصلاة، عند ذاك يكون محبوباً لدى المؤمنين.
في دعاء إبراهيم الخليل : (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم). (إبراهيم: 37) اللهم اجعل مجموعة من الناس تهوى ذريتي وتحبهم.
يعلمنا القرآن الكريم كيف نكسب حب الناس فيقول: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً). (مريم: 96) فمن نعم الله عز وجل على عبده المؤمن في الدنيا أن يجلب قلوب الناس والمؤمنين له، ويجعله مرضياً عند الناس جميعاً، فأي نعمة أفضل، وأي درجة أعلى من هذه الدرجة؟
الطريق مفتوح أمام الإنسان للوصول إلى مثل هذا المقام، لكن سلوك هذا الطريق صعب، وهذا لا يعني أن الطريق مبهمة، بل هي غاية الوضوح والاستقامة، ونهايته سعادة أبدية خالدة.
كان الإمام الرضا وعند وقت تناول الطعام يطلب إناءً فارغاً، ويضع فيه من أفضل الطعام ثم يرسله إلى الفقراء وهو يقرأ هذه الآيات (فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة)، (البلد: 11 ـ 12) لماذا لا يخرج الناس من هذا الطوق؟ لماذا يحبون المشي في الأرض المنخفضة ولا يرتقون إلى القمم لتكون رؤيتهم واضحة وجلية؟ فالذي يمشي في السفح لا يرى شيئاً، أما الذي يصعد الجبل فسوف يرى الأشياء بشكل جيد، لماذا ينفق الناس الطعام الباقي واللباس القديم؟ ليس هذا طريق الخير، وليس هذا اقتحام العقبة، لماذا يرضى بالمستويات الهابطة؟ لماذا لا يحب الناس الصعود إلى معالي الأمور؟ وهذه الآية المباركة تدعونا إلى كسر الطوق وارتقاء المعالي، إن الله لا يحب الأعمال الخسيسة الدنيئة.
إذا شاهدنا أن القلوب مشدودة لمقام معين، فلنطمئن إلى أن الله عز وجل هو الذي شدها إليه، وهذا المقام نصيب كل من أراد الصعود وسلوك طريق الخير. فليس من المعقول أن يتوجه الإنسان بقلبه في الصلاة إلى الله عز وجل ولا يوجه سبحانه قلوب المؤمنين إليه، فهذه نعمة دنيوية قبل نعيم الآخرة، وهي خير الدنيا والآخرة.
لكل صلاة خصوصية معينة، ومن بين الصلوات، صلاة الظهر (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)، (البقرة: 238) لقد فسرت الروايات الصلاة الوسطى بصلاة الظهر، فإذا زالت الشمس وحان وقت الصلاة فلا تفوتنكم فضيلة الصلاة في وقتها. فعند الزوال تفتح أبواب الرحمة، فاسألوا الله عز وجل الرحمة، وفي هذا الوقت لا تكن مشغولاً بالدعاء لنفسك أو لوالديك بل أدع لجميع المؤمنين والمؤمنات ولتكن همتك عالية.
قال الرضا : "لك الحمد ان أطعتك ولا حجة لي أن عصيتك ولا صنع لي ولا لغيري في إحسانك، ولا عذر لي ان أسأت، ما اصابني من حسنة فمنك يا كريم، إغفر لمن في مشارق الأرض ومغاربها من المؤمنين والمؤمنات". (23) (23) بحار الأنوار: ج12، ص23.
وفي وقت الزوال تفتح أبواب الرحمة، ولهذا يستحب البدء بالجهاد بعد الزوال وذلك من أسرار الجهاد، وقبل الزوال يكون الجهاد مكروهاً، إلا أن يبدأ العدو بالقتال وحينذاك يصبح الرد عليه جائزاً في أي وقت، ويعلمنا القرآن الكريم أنه كما أن للمسائل الفردية قصاصاً فكذلك للأحكام الإلهية قصاص، فإذا قتل شخص ظلماً وعدواناً فلأولياء المقتول الحق في الاقتصاص، (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)، (البقرة: 179) فبالإمكان الرد على العدو إذا اعتدى في الأشهر الحرم (والحرمات قصاص). (البقرة: 194).
أي أنكم تستطيعون القصاص منهم في هذه الأشهر، فلا تقولوا يحرم الدفاع في الأشهر الحرام ضد من يعتدي عليكم فيها، بل دافعوا وردوا عدوكم، لأن السكوت على الظلم ذلة، والله سبحانه لا يحب الذليل "لا يحتمل الضيم إلا الضعيف". فما أسمى هذه المعاني وأرفعها! الإمام علي يصف الذي يقبل الظلم بأنه ضعيف، والأمة العزيزة الشريفة لا تقبل الظلم والجور يقول : "ردوا الحجر حيث جاء فإن الشر لا يدفعه إلا الشر". (28) (28) نهج البلاغة الحكمة 314.
لماذا يكون البدء بالقتال قبل الظهر مكروهاً، وبعد الظهر مستحباً؟ إن السر والنكتة في ذلك ما يستفاد من الأحاديث أنه عسى أن يهدي الله قلوب الكفار والمنافقين ويسلموا، وبذلك تحقن دماؤهم، هذا هو السر في الحرب، يقول صاحب الجواهر ـ رضوان الله عليه ـ إن سيد الشهداء الحسين بن علي بدأ الحركة والجهاد بعد صلاة الظهر، أما ما كان قبل صلاة الظهر فكان دفاعاً عن النفس، ولهذا صلى الإمام بتلك الحالة، ومن ثم نزل إلى ساحة المعركة لقتال العدو.
إن ابواب الرحمة تفتح بعد الزوال فاسألوا الله الرحمة الشاملة الكاملة.
عن الرسول أنه قال: "إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء وابواب الجنان واستجيب الدعاء فطوبى لمن رفع له عند ذلك عمل صالح". (29) (29) من لا يحضره الفقيه ج1، باب30، ح12.
فهنيئاً للذي يعمل عملاً صالحاً من بعد الزوال، إن عمله سيرتفع إلى السماء، وإذا ارتفع عمل ارتفع عامله، فليس من المعقول أن يرتفع العمل ويبقى العامل، وليس من الممكن أن تفصل نية الإنسان عن عمله، إن العمل ليس كالبخار أو الدخان، إنه حقيقة واقعية غير مفصولة عن روح الإنسان، ولا يرتفع العمل لتبقى روح الإنسان ملتصقة بالأرض وهي ـ أي الروح ـ منشأ الأعمال، فإذا ارتفع العمل وعامله أصبح الإنسان إنساناً ملائكياً في صف الملائكة.
ومما جاء في أقوال أمير المؤمنين القصار: "فاعل الخير خير منه وفاعل الشر شر منه"، (30) (30) نهج البلاغة الحكمة 32. فنفس الإنسان الصالح أفضل من العمل الصالح، وإذا كان للصلاة فضيلة فالفضل للمصلي لأن الصلاة فعله وأثره، فكيف ترتفع الصلاة ولا يرتفع المصلي؟ كيف يمكن أن يرتفع الصيام ولا يرتفع الصائم؟ وكذلك العمل السيئ ففاعل السوء، والفحشاء أسوأ من عمله.
فإذا ارتفع عمل الخير ارتفعت روح الإنسان الفاعلة له، كان الرسول يقول لأمته: (تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم). (الأنعام: 151)
تختلف (إليّ) عن (تعالى)، فإذا كان شخصان على سطح واحد وأراد أحدهما أن ينادي الآخر يقول له (إليّ)، أما إذا كانا على سطحين مختلفين فالذي في الطبقة العليا يقول للأدنى (تعال)، وكلام الأنبياء من هذا القبيل.
ذكر هذه الملاحظة صاحب التفسير البيضاوي إذ قال: عندما يبني بعض سكنة المناطق الجبلية بيوتهم فانهم يبنونها على سطح الجبل، وتبقى الوديان للزارعة، وعندما يذهب أطفالهم للعب في هذه الوديان يناديهم آباؤهم قائلين: تعالوا تعالوا... وكلام الأنبياء يشبه هذا، والقرآن الكريم عندما ينقل كلام النبي يقول: (تعالوا اتل... عليكم).
على متى نبقى ننظر إلى الأسفل، إلى التراب؟ يقول صدر المتألهين: الإنسان الذي يقضي عمره في بناء قصر أو جمع مال لا يمكن أن يرتقي أو يصل إلى مقام مقبول عند الله عز وجل، مثله مثل الشجرة كلما ازدادت شموخاً وارتفاعاً ازدادت جذورها في الأرض غوراً، إن أصل الشجرة هي العروق أما الأغصان فهي ليست إلا فروعاً.
والإنسان الذي همه هو الدنيا وزينة الأرض يتجه تفكيره إلى التراب، ومثله كثمل الشجرة التي تمد جذورها إلى أعماق الأرض، ومثل هذا الإنسان لا يستطيع أن يرتقي في سلم الكمالات، وقد أمرنا الله سبحانه أن نكون كالملائكة لا كالأشجار.
وردت هذه المعاني في أحاديث الرسول الأكرم مراراً، إذ يقول: تعالوا تعالوا فمتى ندرك ونرتقي إلى الأعلى؟ عندما لا نعرف شيئاً، علينا أن نصعد لنتعرفه، وعندما تنفلت من أيدينا زمام الأمور ينبغي أن نصعد لنتعلم كيف نسيطر على شهواتنا ورغباتنا.
من المؤسف أن يقف الإنسان إلى جانب الفساق والظلمة والمنافقين، ثم يقيس نفسه بهم ويقول الحمد لله، يقول الإمام المجتبى : لا تقس نفسك بالحقراء إلا فستبقى في مكانك ولا ترقى، بل قل الحمد لله إذا لم يجعلنا مع الكفار والمنافقين، لا تجعل نفسك مع هؤلاء، بل اجعلها مع شهداء كربلاء، وقس نفسك بأصحاب الإمام ، إحسب نفسك مع أولئك الذين صلوا صلاة الصبح بوضوء العشاء.
إن دماء أصحاب الحسين الطاهرة هي التي حفظت الإسلام، وهذا يعني أنه لولا تلك الدماء لما تحمل الإسلام كل هذه الضربات والأزمات وتشريد القادة وقتل الأئمة بأشكال مختلفة، فمنذ استشهاد الإمام الحسين حتى ولاية الإمام العسكري عانى الإسلام أشد المعاناة على أيدي خلفاء السلطة الأموية والعباسية وبقية السلاطين الظلمة، ومع ذلك بقي الإسلام، وما ذاك إلا بفضل تلك الدماء الزكية التي سالت على أرض كربلاء، وإذا أدركنا كيف حفظت هذه الدماء الأمة، عندئذ نعرف أن هذه الدماء ليست دماءً عادية، وبهذه الدماء نستطيع أن نحفظ بلادنا وإسلامنا.
يقول الإمام المجتبى : لا تجعل نفسك مع أهل الدنيا وإلا أصابك الضرر، ولقد كلفنا باحياء ليالي الجمعة ونطلب من الله سبحانه أن يجعلنا من أحسن خلقه (وأخصهم زلفة لديك)، ولهذا يقول رسول الله : "هنيئاً لأصحاب الأعمال الحسنة الصالحة، أولئك يرقون في السماء وتصبح أرواحهم ملائكية"।
----------------------------------------------
سُئلت :
حبذا لو تكرمت بوضع الدليل على ان أجساد أهل البيت عليهم السلام لاتبقى بالأرض لكان الشرح أكثر تكاملاً
موفق ان شاء الله
موفق ان شاء الله
سؤالكم كان متوقعا , و ذلك لغموض الأمر , و لكني كنت قد أغضيت الطرف عنه حيث أن في الإفصاح عنه عدة عوائق , و من أهمها تشكيك المشكك , و إحداث إضطراب عند الضعيف , حيث أن الأمر ليس بالسهل .
و لكن لطمئنتكم أقول أن هذا الأمر أيضا يقول به أحد أجل علمآئنا الكبار و هو الشيخ المفيد رضوان الله عليه , قول الشيخ المفيد اعلى الله مقامه في أن ارواح الأئمة وأجسادهم صلوات الله وسلامه عليهم ترتفع إلى الاعلى ولا تظل اجسادهم في القبر .
و لكن كرما لكم أذكر لكم بعض ما جاد به يراع أحد علمائنا , و أذكر في طياته شيئ مما قد خفي على الكثير , و إن شاء الله يكون فيه الفائدة :
الأدلة الواردة جلها نقلية , و إن كان هناك مخرج عقلي له , من حيث رابطة الروح و الجسد , و لكن صعب علي شرحه , و سأقتصر على الروايات و الأدلة النقلية .
الروايات على طائفتين , فمنها ما دلّ على أن أجسادهم الطاهرة ترتفع، ومنها ما دلّ على العكس وتؤيده شواهد الواقع عبر التاريخ.
فمن الطائفة الأولى ما عن زياد بن أبي الحلال عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: ”ما من نبي ولا وصي نبي يبقى في الأرض بعد موته أكثر من ثلاثة أيام حتى ترفع روحه وعظمه ولحمه إلى السماء، وإنما تؤتى مواضع آثارهم ويبلغهم السلام من بيعد ويسمعونه في مواضع آثارهم من قريب“. (كامل الزيارات ص544 والكافي ج4 ص567 وغيرهما).
وكذا ما عن عطية الأبزاري عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: ”لا تمكث جثة نبي ولا وصي نبي في الأرض أكثر من أربعين يوما“. (التهذيب ج6 ص106).
أما من الطائفة الثانية فما عن المفضل بن عمر الجعفي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: ”إذا زرت أمير المؤمنين فاعلم أنك زائر عظام آدم وبدن نوح وجسم علي بن أبي طالب عليهم السلام“. (كامل الزيارات ص90 والتهذيب ج6 ص22 وغيرهما).
وكذا ما عن يزيد الكناسي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث: ”إن الله عز ذكره أوحى إلى موسى أن احمل عظام يوسف من مصر قبل أن تخرج منها إلى الأرض المقدسة“. (الكافي ج8 ص136 ومن لا يحضره الفقيه ج1 ص123 وغيرهما).
ويؤيد ذلك ما ورد من استسقاء بعض اليهود بعظم نبي، وما ورد من حرمة التقدّم على المعصوم في الصلاة حيا وميتا، وهو يلازم بقاء جسده في قبره. كما وتؤيده شواهد الواقع إذ قد شوهدت أجساد بعض الأنبياء (عليهم السلام) كالنبي حبقوق (عليه السلام) في إيران والنبي شعيب (عليه السلام) في العراق، بل شوهد الجسد الطاهر لمولانا أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) غير مرة، وذلك عندما كشف قبره الشريف موسى بن عباس الهاشمي أمير الكوفة بعد عام 65، وكذا عندما نبشه إبراهيم اليهودي المعروف بالديزج بأمر المتوكل لعنه الله.
والذي يرجح في نظرنا هو أن أجسادهم (عليهم السلام) ترتفع عن الأرض إلا أنها تعود في أحيان معيّنة لإظهار كرامتهم أو علو شأوهم عند الله تبارك وتعالى أو لحكمة أخرى، لا أنها تبقى في الأرض مطلقا.
ونستقرب ذلك جمعا بين الطائفتيْن وبضميمة رواية استشهاد السلطان الإمام الرضا (صلوات الله و سلامه عليه) التي ثبت فيها الصعود والهبوط، فقد روى الصدوق عن أبي الصلت الهروي (رضوان الله عليه) في مجريات تجهيز الرضا (عليه أفضل الصلاو والسلام) أن التابوت الحاوي للجثمان الشريف قد علا وانشق له السقف فمضى، فقال له أبو جعفر الجواد صلوات الله و سلامه عليه : ”أسكت فإنه سيعود، يا أبا الصلت.. ما من نبي يموت بالمشرق ويموت وصيه بالمغرب إلا جمع الله بين أرواحهما وأجسادهما“ وعندما أتم الإمام الحديث انشق السقف ثانية ونزل التابوت. (عيون أخبار الرضا عليه السلام ج1 ص267).
ولعل اختلاف الروايتيْن المتقدّمتيْن التي تنص إحدهما على أن الجسد يرتفع بعد ثلاثة أيام، والأخرى على أنه يرتفع بعد أربعين يوما؛ لعل الاختلاف يعود إلى تعدّد الصعود والهبوط، فيكون الصعود الأول بعد ثلاثة والثاني بعد أربعين.
وكما أن في شواهد الواقع بقاء الأجساد ورؤيتها في القبر بعد النبش فإن في بعض الشواهد أيضا فقدانها، كما حصل حين هجم المخالفون في بغداد سنة 443 على مشهد الكاظمين (عليهما السلام) فأحرقوه ونبشوا القبرين الشريفين فلم يجدوا شيئا. (تفصيل ذلك ذكره ابن الأثير في الكامل في التاريخ ج9 ص577، وقد علّل عدم عثورهم على شيء بأن الحفر قد جاء إلى جانب القبريْن بسبب ما حلّ في الروضة الشريفة من الهدم والحرق، لكنه تعليل سخيف إذ لا يمكن أن يخطئ أحد في تمييز القبرين الشريفين مع ما لهما من علامات ظاهرة، ثم إنهم هم الذين حرقوا وهدموا ما يعني أنهم قد ميّزوا الموضع من خلال العلامات – وأبرزها القبتان - قبل حرقها أو هدمها، وحتى لو وقع الحفر إلى الجانب فإن مقتضى الحال أن يجدوا جثثا أو عظاما أخرى إذ إن المشهد الشريف هو بالأصل مقابر قريش، وعدم وجدانهم شيئا لا شك أنه يسبب همّتهم في الحفر إلى جانب الموضع الذي حفروه وحوله حتى يتوصلوا إلى الجسدين الطاهرين، لكنهم لم يفعلوا لأن الأمر كان مفاجئا لهم حيث لم يجدوا شيئا. إنما الحق أنها كانت كرامة من الله تعالى حيث كان الجسدان مرفوعان إليه).
هذا وقد حمل بعضهم الروايات التي تنص على ارتفاع الأجساد الطاهرة على التقية، أي أن المعصومين (عليهم السلام) ذكروا ذلك حتى يكون مانعا للنواصب عن نبش قبورهم، لكن هذا الحمل مردود عندنا من جهتيْن، الأولى أن النواصب والمخالفين لا يعتقدون أصلا بما يصدر عن الأئمة سيما إذا كان هذا الحديث الصادر من نوع الإخبار بالغيبيات والكرامات، فكيف يُعقل تصديقهم لتلك الأحاديث ليمتنعوا عن النبش والحال أنهم يعتبرون الأئمة (عليهم السلام) كذابين والعياذ بالله؟!
والثانية أن حفظ أجسادهم (عليهم السلام) لا يتوقف على درء النبش عنهم، فهذا قبر سيد الشهداء (عليه السلام) قد نُبش ثم أُجرِي عليه الماء لكن الله تعالى حفظ وليّه ودفع شرّ أعدائه عنه، فالقول بصدور هذه الأحاديث تقية لدرء نبش قبورهم بعيد جدا إذ المتكفل بحفظ تلك الأجساد الطاهرة هو الله جل جلاله.
والحاصل أن الله تعالى يرفع أجساد المعصومين والأنبياء (عليهم السلام) بعد استشهادهم، ثم يعيدها إلى الأرض لحكمة في أحيان، ثم يرفعها، وسيعيدها ثانية في زمن الرجعة حيث ورد في الآثار أنهم (عليهم السلام) يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم.
>>>>>
و أخيرا بودي الإشارة إلى شيئ من الأسرار
إن المطلع على الروايات و الأدعية و الزيارات , يرى جليا أن في بعض الأوقات و الأيام قد ذكر أنه إختص بزيارة أبي عبد الله الحسين عليه السلام , أو أن زيارة سيد الشهدآء سلام الله عليه في هذا اليوم مؤكد كثيرا , و للإنسان أن يسأل لما هذه الخصوصية في هذه الأوقات بالذات , أقول , لعل هذه الخصوصية المتأتية لهذه الأوقات إنما هي لأجل أن سيد الشهدآء سلام الله عليه يكون حاضرا بروحه و جسده في تلك الأوقات في كربلاء المقدسة , فيزداد الأمر شرافة و خصوصية , و الله العالم .
>>>>>
---------------------------------------------
المقام الثالث : مدخلية المعرفة في تحقق الحضور
كما قد أشرنا أن لا حضور مع الغفلة و الغفلة إنما تأتي من قلة أو عدم المعرفة , فمن هنا يتبين لنا أن مدخلية المعرفة في تحقق الحضور .
و هذه المعرفة لا بد و أن يعقد عليها القلب لكي يسموا الإنسان بها إلى مدارج الكمال , هنا يأتي سؤال , و مفاده إذا كان الإعتقاد يصعد فهل الإنسان يصعد معه ؟
الجواب : إن النظرية العقلية تقول إذا إعتقد الإنسان إعتقادا و عمل بذلك الإعتقاد و ترسخ , فإن الإعتقاد و المُعتقِد ( الإنسان ) يكونان شيئا واحدا , و يكون العمل و العامل شيئا واحدا , فإذا صعد إحداهما و هو الإعتقاد , صعد المعتقِد معه , حسب نظرية إتحاد العاقل و المعقول .
و ليس معنى إتحاد العاقل و المعقول , إتحاد وجود الإنسان مع المعلوم ( المعتَقَد ) بل إن النفس حيث تعلم بذلك المعتقد ( المعلوم ) تتحول إلى وجود علمي و هو وجود ذلك الشيئ الذي علمته , فليس المعلوم شيئا و العالم شيئا آخر , و إنما يصيران شيئا واحدا , إنظر : الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة للملا صدرالدين الشيرازي رضوان الله عليه , ج 3 ص 327
و تقريب ذلك بمثال مادي , قطعة الفحم عندما تجعلها قريبة من النار فهي سودآء و لكن بعد مدة تتحول إلى قطعة حمرآء نتيجة تأثر النار فيها , حيث فقدت صفاتها السابقة , ففي السابق كانت مظلمة , و الآن منيرة و تصدر منها الحرارة , فحقيقة هذه الفحمة تحوّلت إلى حقيقة أخرى و هذا ما يعبر عنه في الفلسفة بالحركة الجوهرية , يعني أن الجوهر تحرك من حقيقة إلى حقيقة أخرى . فالإنسان حينما يعتقد بشيئ و يعمل على أساس ذلك المعتقد , فإنه يتحرك و يتقرب إلى الله تبعا لصعود إعتقاده إلى الله تعالى , لصيرورة الإعتقاد و المعتقِد شيئا واحدا , , و من هنا بودي الإشارة أيضا إلى لطيفة أخرى أن لا ساكن مطلق إلى الله عز و جل , و لازم أن لا تفهم معنى السكون و الحركة بمعناها المادي أي إنتقال من مكان إلى مكان , بل التحرك معناها الترقي أو التسافل في درجات الكمال , و الله عز و جل هو الكامل المطلق , فكل العالم يسبح , إلى الله عز و جل .
من كان يريد العزة فلله العزة جميعا اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر اولئك هو يبور
أما أثر العمل الطالح على عقيدة الإنسان
بعدما إتضح أن العمل الصالح يقوم بدورين , أحدهما تثبيت العقيدة الصحيحة , و الآخر رفع العقيدة الصحيحة من درجة وجودية إلى درجة وجودية أعلى , يكون من المنطقي أن نتمهل قليلا للوقوف على أثر العمل الطالح على عقيدة الإنسان .
فنقول إن ما نستوحيه من آيات القرآن الكريم , هو أن العمل الطالح أيضا يقوم بدورين أيضا :
الدور الأول : تثبيت الإعتقاد الباطل .
الدور الثاني : تكامل الإعتقاد الباطل في دركات الجحيم , كما قال الله تعالى :
" ان المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا "
فكما أن للجنة درجات و مراتب بحسب الإصطلاح القرآني كما قال الله تعالى :
" ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم اعمالهم وهم لا يظلمون "
كذلك الإعتقاد بالباطل له دركات مترامية في نار جهنم .
و مما يستدل به على ذلك قوله تعالى :
" ثم كان عاقبة الذين اساؤوا السواى ان كذبوا بايات الله وكانوا بها يستهزؤون "
فالآية في صدد أمر في غاية الأهمية و الخطورة , و هو أن هؤلاء الذين عملوا السوء لم يكونوا كفارا أو مشركين إلا أن عاقبة أعمالهم السيئة ساهمت في وقوعهم في ضلال , و تكذيبهم لآيات الله تعالى و السقوط في قاع الرذيلة و الإعتقاد الباطل , و التكذيب بآيات الله تعالى .
و بنفس المضمون جاء التعبير القرآني في آية أخرى بالقول :
" فاعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه بما اخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون "
حيث تصرح الآية الكريمة بأن هؤلاء لم يكونوا في البدء منافقين , إلا أن قيامهم بالأعمال السيئة و إصرارهم على ذلك أوقعتهم في هذا الدرجة من النفاق , لذا قال الله تعالى : " فاعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه بما اخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون " فالسبب الذي كان وراء صيرورتهم منافقين هو كذبهم على الله تعالى , إذ أن العمل الصالح يقوم بتثبيت العقيدة الصحيحة و الإرتقآء بالإيمان في سلّم الدرجات الصاعدة , و كذلك العمل الطالح يقوم بتثبيت العقيدة الباطلة و تنزلها في دركات الجحيم .
الآن بما وصلنا إلى هذا المقام لا بأس من الإشارة إلى بعض نكات حول تحول و صيرورة الإنسان إنسانا .
الإنسان في حالة الصيرورة
الإنسان من بدو تكوّنه قد بدأ في سيره التكاملي الطبيعي , بل أصلا جوهر حياته في حركته و رشده . هذا السير الطبيعي لجسمه و بدنه , و ليس للإنسان في ذلك إختيار , أي لا يقدر أن يختار متى ما اراد أن يكبر أن يكبر أو متى ما أراد أن يتوقف عن النمو أن يتوقف , فهو محكوم بهذا النمو شآء أم أبى , هذا السير موجود في وجود الإنسان . و لهذا السير الطبيعي و الرشد الدني و الجسدي حد معين و زمان مشخص , و بعدها يكون , ومن نعمره ننكسه في الخلق افلا يعقلون , فهذا السير الصوري موجب لتكمال الجسمي و الجسدي لبدن الإنسان .
أما الإنسان فليس فقط جسما بل له روح و نفس أيضا , و الإنسان مضافا على سيره التكاملي الجسمي يجب أن يكون له سير تكاملي لروحه , حتى يصار إنسانية هذا الإنسان إلى المرحلة الفعلية و يجد سعة وجودية و تكامل ذاتي حتى يتصف بالأوصاف الإنسانية و يتخلق بالأخلاق الهية , حتى يمتاز عن سائر الموجودات , و هذا السير التكاملي هو بإختيار الإنسان , و ليس له زمان مشخص , و لكن التوفيق كل التوفيق لمن بدأ سيره في أوائل شبابه و يتحرك إلى تفعيل قواه الإنسانية , لكي يصار من إنسان بالقوة إلى إنسان بالفعل , و هذا السير في التكامل و التعالي ليس له حد معين , فهو سير معنوي .
و مسير التكاملي للإنسان هو الدين , و التدين هو أصعب رياضة في سير و سلوك الإنسان . الدين عبارة عن جعل و تنظيم لأسرار التكويني و الطبيعي في مسيرة التكامل الإنساني الذي هو على وفق ناموس الخلق و الحقيقة و الواقع , الذي هو قد بُيّنَ بلسان السفرآء اللهيين , الذين هم أهل العصمة و الطهارة سلام الله عليهم أجمعين أئمة القافلة الإنسانية . و هذا الصراط المستقيم هو الصراط إلى الله عز و جل الذي من مر عليه و سار عليه وصل و من جاوزه ظلم نفسه و هلك , و أضاع حظه في حركته نحو الكمال و الإستكمال . " ومن يتعد حدود الله فاولئك هم الظالمون " و القرآن الكريم يرى الإنسان مسافر في حال السير و يقول , " يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه " فإذا كان الإنسان مسافرا و مقصده لقاء الله , فحتما و قهرا يكون سيره عموديا و طوليا , يعني سيره التكاملي يكون ملكوتيا , و ليس سيرا أفقيا إقليميا .
و سير التكاملي للإنسان نحو لقآء الله له ركنان , الأول قطع العلائق من الأرض من خلال العمل الصالح , و الثاني وصل العلائق مع السمآء من خلال الإيمان و العقيدة الصحيحة الراسخة : " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " و حقيقة التكامل هو المعراج , و لا يكون هناك معراج و سير معنوي دون هذين الركنين معا , لأنهما جناحان , و لا بد من جناحين للطيران .
" يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية " , فلا يقولون للواصل أرجعي بل يقولون للسالك إرجعي .
السير التكاملي للإنسان موافق لنظام الخلقة و ناموسها , و حقيقة السير التكاملي للإنسان هو تعليم و تأديب , لأن التعليم هو تنيمية و تربية النفس الناطقة الإنسانية , و طعام الروح و غذاء النفس , و تأديب الإنسان بالأعمال الصالحه هي ترسيخ لهذه التربية و دوامها .
فإذا صار تكامل الإنسان إلى حد النصاب , فحينها يستطيع الإنسان تدريجا أن يكون مظهر العظمة اللهية و أن يستفيد من الفيوضات الربانية .
فالإنسان في قوس صعود و نزول , و من خلال ذلك يتبين لنا السر في شوقنا إلى تلك العوالم , و تحديدا إلى الصادر الأول و المظهر الأتم للإسم الأعظم ذلك الموطن الأصلي الذي إنحدرنا منه و نظل نهفو إليه , " فاجعل افئدة من الناس تهوي اليهم " و لك أن تتأمل كثيرا في قوله صلى الله عليه و آله الأطهار , حب الوطن من الإيمان , فأي وطن عناه ؟ و أي إيمان يكون من ذلك الحب ؟ و من هنا يمكنك أن تستنير بإضاءة و إشراقة جديدة من الحديث الشريف للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله الأطهار حيث يقول , أنا و علي أبوا هذه الأمة , فتأمل في ذلك كثيرا .
فالأسفار الأربعة للإنسان تعني بإيجاز , السفر في درجات و سلّم الوجود , حيث السير من مرحلة إلى مرحلة أخرى و هكذا حتى يصل العبد السالك إلى غايته المنشودة , أعني الحق سبحانه و تعالى , فهو غاية الغايات , على حد تعبير أميرنا و سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبيطالب سلام الله و صلواته عليه :
" كان ربي قبل القبل بلا قبل ، و بعد البعد بلا بعد ، و لا غاية و لا منتهى لغايته ، انقطعت الغايات عنده فهو منتهى كل غاية " ( أصول الكافي الشريف ج 1 ص 89 ح 5 )
هذا و الشواهد القرآنية و الروائية و الأدلة العقلية القاطعة تثبت أن الإنسان لم يأت إلى هذه الدنيا ليقف عندها و فيها , و إنما جاء هنا ليبدأ مسيرته الكبرى نحو الله سبحانه و تعالى .
ففي مناجاة المريدين لسيد الساجدين و زين العابدين سلام الله و صلواته عليه نقرأ :
" فَأَنْتَ لاَ غَيْرُكَ مُرادِي، وَلَكَ لا لِسِواكَ سَهَرِي وَسُهادِي، وَلِقاؤُكَ قُرَّةُ عَيْني، وَوَصْلُكَ مُنى نَفْسِي، وَإلَيْكَ شَوْقِي، وَفِي مَحَبَّتِكَ وَلَهِي، وَإلى هَواكَ صَبابَتِي، وَرِضاكَ بُغْيَتي، وَرُؤْيَتُكَ حاجَتِي، وَجِوارُكَ طَلَبِي، وَقُرْبُكَ غايَةُ سُؤْلِي "
و كذلك نقرأ في مناجاة المفتقرين :
" وَغُلَّتِي لا يُبَرِّدُها إلاَّ وَصْلُكَ، وَلَوْعَتِي لا يُطْفِيها إلاَّ لِقآؤُكَ، وَشَوْقِي إلَيْكَ لا يَبُلُّهُ إلاَّ النَّظَرُ إلى وَجْهِكَ، وَقَرارِي لا يَقِرُّ دُونَ دُنُوِّي مِنْكَ "
و أخيرا بودي الإشارة إلى مدخلية الولاية في إظهار هذه القابليات المودعة في الإنسان
نور الولاية و تأثيرها في ظهور الحقائق و المخفيّات وبروز القابليّات الممكنات
الولاية تُظهر السرائر السليمة و السيّئة
من وجهة نظر اشعاع نور الولاية و ظهور الحقائق و المخفيّات وبروز القابليّات، و هذه المرحلة تحتاج إلی الدقّة و التأمّل؛ و لإيضاح هذه المرحلة نذكر مقدّمة بعنوان مثال و شاهد:
من المعلوم و المشهود انّ الشمس تبتعد في فصل الشتاء عن الارض، فتفقد الارض بعض حرارتها، و تفقد جميع ءاثارها و تجليّاتها، إذ تصبح كئيبةً باردة و تفقد ءاثارها الحياتيّة فليس فيها ظهور لخواص الموجودات او ءاثارها، فالاشجار يابسة لا ورق فيها و لا ثمر، كأنّها أخشاب يابسة مغروسة في الارض، تقف اشجار التفاح و الكمثري والرمّان و المشمش و الجوز و الاشجار غير المثمرة كلّها سواءً و في رديف واحد، لا يميّزها عن بعضها شيء، إذ ليس فيها من ظهور أو فعلیة، كما انّ قابليّاتها الكامنة غير مرئيّة، لذا فانّها تقف في منزلة واحدة و تُعدّ أخشاباً يابسة لا ضرر و لا نفع لها.
كما ان الاوراد و الشقائق ذابلة كلّها و منكمشة بلا أثر، فلا ورد إلیاس و الرازقي يفوح بالعطر، و لا النباتات ذات الرائحة الكريهة تبعث برائحتها؛ لا طراوة هناك في الوردة الحمراء، و لا أوراد الدفلي ذات الرائحة النفّاذة لها أثر من ذلك.
البلابل و طيور الكناري و طيور الزاغ و العُقبان قد انسحبت إلی أعشاشها و أوكارها، و الافاعي و العقارب قد سبتت و رقدت هي الاخري مع الطيور البديعة الرائعة و تهاوت في جحورها و أعشاشها متثاقلة بلا حسّ.
و ما ان تقترب الشمس بأشعتها التي تغمر العالم مع حلول الربيع، وتُرسل إلی الارض بأشعتها الباعثة علی النشاط و الحياة، فانّ تلك القابليات الكامنة ستصل إلی مرحلة الفعلیة، فتبدأ شجرة التفّاح بإرسال أغصانها وأوراقها و ثمارها الحلوة الحمراء المعطّرة مزيّنةً جوّ الحديقة، ويظهر من شجرة الكمثري هذه الفاكهة الخاصّة، و تُعلن شجرة المشمش بمنظرها الزاهي المحبّب و ثمارها الصفراء العطرة اللذيذة ميزتها الوجوديّة عن سائر ما يجاورها في الحديقة.
كما انّ الاشجار غير المثمرة و الاشجار ذات الثمار المرّة أو الفجّة الحامضة و الضارّة مثل بعض أشجار الغابات ستُعلن عن تفاهة شخصيّتها وأثرها، و تطأطيء رؤسها أمام الاشجار الاخري فليس لها بَعْدُ من مجالٍ للغرور و الاستكبار و التعإلی.
كما ان الطيور و البلابل ستنشغل و تنهمك بالتغريد في فضاء الحدائق، بينما تحلّق طيور الزاغ و العُقبان باحثةً عن الجيف، و تظهر الافاعي والجرذان و العقارب و تُعلن عن وجودها متحرّكةً بين الصخور والانهار.
و كلّ ذلك بتأثير أشعّة الشمس و ظهور دفئها الباعث علی الحياة والنشاط، فحين تبزغ الشمس فانّ كلّ موجود يُظهر قابليّته و يُبرز مراحله الكامنة، بينما لم يكن هناك فرق بين الموجودات قبل طلوع الشمس و قبل بزوغ اشعاعها.
و هكذا الامر بالنسبة إلی شمس الولاية، فقبل أن تطلع و تشرق علی القلوب و الافئدة، و قبل أن تأمر و تنهي، فانّ البشر سيعيشون في مستوي واحد، فلا تفاوت بين الشقيّ و السعيد، و لا بين أهل الجنّة و النار، و لا بين مؤمن و كافر، و لا بين عادل و فاسق، و لا بين محبّ و مُبغض، و لا بين موحدّ و مُشرك:
كَانَ النَّاسُ اُمَّةً وَ حِدَةً
كانوا كلّهم في مستوي واحد، و ما أكثر ما كان يحصل ان يعدّ الاشقياء أنفسهم أفضل من السعداء و يفتخرون بذلك؛ ولكن ما ان طلعت شمس الولاية و أشرقت علی الارواح الكئيبة، حتّي بعثت الحركة و النشاط في النفوس و أظهرت غرائز و سرائر و ضمائر كلّ إنسان، فطووا باختيارهم طريق السعادة فأوصلوا كلّ القابليّات النورانيّة إلی مرحلة الفعلیة؛ أمّا الاشقياء فانّ خُبث السريرة سيظهر بسبب تمرّدهم و إنكارهم و جحودهم القلبيّ، و ستظهر الاثار القبيحة السيّئة لهم في مرحلة الفعل و القول.
و هكذا فانّ أصحاب الفطرة السليمة سيتراصّون في صفوف العبوديّة، و سيملئون الدنيا تواضعاً و إنفاقاً و إيثاراً و رحمةً و إنصافاً وترحّماً علی الايتام و صدقاً و صفاءً و عدلاً و توحيداً.
امّا أصحاب الفطرة السيّئة فانّهم سيشكّلون صفوف الفجور والفسق، فيملاون الدنيا خيانةً و قبحاً و قساوة و اغتصاباً للحقوق و الاموال، و كذباً وظلماً و شِركاً:
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَ يَحْيَي' مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَهَ لَسَمِيعٌ علیمٌ
و بعبارة أخري فلانّ الإمام هو روح القرءان و حقيقته، و كما انّ القرءان شفاء و نور و رحمة للمؤمنين، و سببٌ لرقيّهم و كمالهم، بينما هو في الوقت نفسه ظُلمة و خسران و وبال للظالمين و سببٌ لزيادة قسوتهم وظلمهم، فانّ وجود الإمام علیه السلام له هذا الاثر و الخاصيّة أيضاً.
وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَ رَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ الظَّـ'لِمِينَ إلاَّ خَسَارًا
انّ الايات القرءانيّة تُقرأ علی المؤمن و توجب رفع مقامه و منزلته بناءً علی تقبّل قلبه و خضوعه و خشوعه و ازدياد إيمانه و توكّله، لكنّها عندما تُقرأ علی الكافر فانّها ستسبّب زيادة ظلمته و خُسرانه بسبب جحود قلبه و إنكاره و تمرّده.
حين تشرق شمس الولاية علی قلوب المؤمنين كمصباح منير، فانّهم سيفيدون من تلك الحرارة و النور، و سيتصاعد العطر المنعش من أرواحهم و أسرارهم فيعطّر فضاء عالم الإنسانيّة، امّا قلوب الكافرين فتصبح متعبة كدرة، و ستزكم رائحة التعفّن الكامنة فيهم أنوف الإنسانيّة، وتسبب الملل و الضجر للعقل و الحق.
انّ الامام سيظهر، من وجهة نظر ملكوت البشر و قلوبهم، كلّ استعداد فيهم و يوصله إلی مقاصده، فيوصل المؤمنين إلی الجنّة و يُرسل الكافرين إلی النار، و يحرّك كل موجود من وجهة نظر ملكوته في طريق وصراط يتناسب معه.
ما مِن دَآبَّةٍ إلاَّ هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي علی' صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ
انّ لكلّ فرد من المؤمنين مقاماً معلوماً في الجنّة، كما انّ هناك لكلّ كافر مكاناً معلوماً في النار، و الوصول إلی هذه الغاية يتمّ بواسطة الامام الذيء يهدي كلّ شخص في مسيره و هدفه من وجهة نظر التكوين؛ امّا من وجهة نظر التشريع، و بسبب القبول و الرفض الذي يجعل الكافرين والمؤمنين في صفّين متقابلين مختلفين، فانّه سيقود كلاّ منهما إلی كمال استعداه .
تلخيص و نتيجة
من ما مر قد عرفنا أن الإنسان في سير إلى الله عز و جل و هناك سير تكاملي إختياري , و يحتاج إلى جناحين العقيدة الصحيحة و العمل الصالح , و عرفت من خلال بيان مقتضب لقاعدة إتحاد العاقل و المعقول أن الإعتقاد الصحيح ينمي الإنسان و يرقي به إلى الأعلى , و عرفت هذا الصعود و هذه الحركة هي نحو ولي الله الأعظم الذي هو المظهر الأتم للإسم الأعظم , و هو الموطن للإنسان , و لأجل هذا الصعود و هذه الحركة تحتاج إلى معرفة , و المعرفة تحتاج بأن يعقد عليها القلب , و هذا مستلزم للطهارة و نقاوة و صفآء في الروح , و الولاية التي هي من أعظم المطهرات , كما في زيارة سيدتنا فاطمة الزهرآء سلام الله عليها , هي من أنجع ما يتطهر الإنسان بها , و الآن جاء الدور بعد هذه المقدمة الطويلة أن نقول أن الزيارة هي إحدى الطرق المؤثرة السريعة في إظهار الولاء و التطهير الروحي و الرقي نحو الكمال , من خلال الإستمداد من ولي الله الأعظم الذي تحضر بحضرته و تتأدب فيه بآداب الزيارة , و تعقد قلبك بما تصفه به من اوصاف و تخاطبه به من كمالات , فإن قرنت ذلك بالإعتقاد الراسخ و العمل الصالح , كان الإتحاد , فسموت إلى مراقي الكمال , بفيض يتقبله وجدانك حيث صار إنسانيتك من قوة إلى فعل , بنظرة رحمة من المعصوم صلوات الله عليه , بزيادة قابليتك , فتقلل من الإنفعالية و تزداد في الفعلية , فلا تكون فقط منفعلا و متأثرا بالغير , بل تكون فاعلا و تؤثر في الغير , فإن الزيارة و نصها إنما هو درس في معرفة المعصوم عليه السلام و إعتقاد القلب بهذه المعرفة , و بذا أكون قد ألمحت شيئا إلى معنى الزيارة, و لساني كليل عاجز عن درك حقيقة معناها ।
----------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد و آل محمد الأطيبين الأطهرين
و اللعنة الدآئمة الوبيلة على أعدآئهم و ظالميهم أجمعين
بعد أن قطعت معك مشوارا في بيان بعض ما يتعلق بمعنى الزيارة و معنى الحضور بين يدي المعصوم عليه السلام , أحب أن أورد هنا كلمة للسيد الإمام الخميني قدس الله سره الشريف بخصوص رجوع الكائنات و المخلوقات إلى الإنسان الكامل سلام الله عليه
حيث أرى أن له مدخلية كبيرة في هذا البحث و فيه فائدة جلية في أن يفتح آفاق نظرك حول هذه المسئلة :
يقول قدست نفسه الزكية في كتابه الآداب المعنوية للصلاة صفحة 417 :
" حيث أن تربية نظام عالم الملك من الفلكيات والعنصريات والجوهريات والعرضيات مقدمة وجود الانسان الكامل ، وفي الحقيقة هذه الوليدة عصارة عالم التحقق والغاية القصوى للعالمين ولهذه الجهة صارت الوليدة الأخيرة ، وحيث أن عالم الملك متحرك بالحركة الذاتية الجوهرية وهذه الحركة ذاتية استكماليا فأينما انتهت فهو غاية الخلقة ونهاية السير، فاذا نظرنا بالطريق الكلي الى الجسم الكلي والطبع الكل والنبات الكل والحيوان الكل والانسان الكل ، فإن الانسان هو الوليدة الأخيرة التي وجدت بعد الحركات الذاتية الجوهرية للعالم وانتهت الحركات اليه ، فيد التربية للحق تعالى فيد التربية للحق تعالى قد ربّت الانسان في جميع دار التحقق والانسان هو الأول والآخر .
تنبيه آخر :
وهذا الذي ذكرناه في الأفعال الجزئية وبالنظر الى مراتب الوجود والا فبحسب الفعل المطلق ليست لفعل الحق تعالى غاية سوى ذاته المقدسة كما هو مبرهن في محالّه ، واذا نظرنا الى الأفعال الجزئية أيضا فغاية خلقة الانسان عالم الغيب المطلق كما ورد في القدسيات " يابن آدم خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي " .. وفي القرآن الشريف يخاطب موسى ابن عمران على نبينا وآله وعليه السلام ويقول " اصطنعتك لنفسي " (طه - 40 ) . وأيضا يقول: "وأنا اخترتك " ( طه - 13 ) . فالانسان مخلوق لأجل الله ومصنوع لذاته المقدسة وهو المصطفى والمختار من بين الموجودات ، وغاية سيره الوصول الى باب الله والفناء في ذات الله والعكوف لفناء الله ومعاده الى الله ومن الله وفي الله وبالله كما يقول سبحانه في القرآن : " إنّ الينا ايابهم ".. وسائر الموجودات بواسطة الانسان ترجع الى الحق تعالى بل مرجعها ومعادها الى الانسان كما يقول في الزيارة الجامعة المظهرة لنبذة من مقامات الولاية " واياب الخلق اليكم وحسابكم عليكم " . ويقول : " بكم فتح الله وبكم يختم " .. وفي قول الله تعالى : " إنّ إلينا ايابهم ثم إنّ علينا حسابهم ( الغاشية - 25 ) .. وقوله عليه السلام في الزيارة الجامعة " واياب الخلق اليكم وحسابهم عليكم " سر من أسرار التوحيد واشارة الى أن الرجوع الى الانسان الكامل هو الرجوع الى الله لأن الانسان الكامل فانٍ مطلق وباقٍ ببقاء الله وليس له من عند نفسه تعيّن وإنّيّة وأنانية بل هو نفسه من الأسماء الحسنى وهو الاسم الأعظم .
كما ان الاشارة الى هذا المعنى كثيرة في القرآن والأحاديث الشريفة وان القرآن الشريف قد جمع من لطائف التوحيد وحقائقه وسرائره ودقائقه ما تتحير فيه عقول أهل المعرفة وهذا هو الاعجاز العظيم لهذه الصحيفة النورانية السماوية لا أن حسن التركيب ولطف البيان وغاية الفصاحة ونهاية البلاغة وكيفية الدعوة والأخبار عن المغيبات وأحكام الأحكام واتقان التنظيم للعائلة وأمثالها فحسب التي يكون كل واحد منها باستقلاله اعجازا فوق الطاقة وخارقا للعادة بل يمكن أن يقال أن معروفية القرآن بالفصاحه واشتهار هذا الاعجاز من بين سائر المعجزات في الآافاق لانه كان للأعراب في الصدر الأول هذا التخصص وأدركوا هذه الجهة من الأعجاز فحسب ، وأما الجهات الأخرى المهمة التي كانت فيه وكانت جهة اعجازها أرفع ، وأساس ادراكها أعلى فلم يدركها أعراب ذلك الزمان ، والحال ايضا أن المتحدين معهم في أفق الفهم لا يدركون من هذه اللطيفة الالهية سوى التركيبات اللفظية والمحسنات البديعة والبيانية ، أما المطلعون لأسرار المعارف ودقائقها والخبراء بلطائف التوحيد والتجريد فوجهة نظرهم في هذا الكتاب الإِلهي وقبلة أمالهم في هذا الوحي السماوي انما هي معارفه وليس لهم توجّه كثير الى الجهات الأخرى . ومن نظر الى عرفان القرآن وعرفاء الاسلام الذين اكتسبوا المعارف من القرآن وقايس بينهم وبين سائر علماء الأديان وتصنيفاتهم ومعارفهم يعرف حد معارف الاسلام والقرآن التي هي أساس الدين والديانة والغاية القصوى لبعث الرسل وانزال الكتب ويصدق بلا مؤونة أن هذا الكتاب وحي الهي وهذه المعارف معارف الهية .
ايقاظ ايماني :
اعلم أن الربوبية الحق جلّ شأنه للعالمين على نحوين :
الأول : الربوبية العامة التي تشارك فيها جميع موجودات العالم وهي التربية التكوينية التي توصل كل موجود من حد النقص الى حدّ الجمال اللائق له تحت تصرف الربوبي وتقع جميع الترقيات الطبيعية والجوهرية والحركات والتطورات الذاتية والعرضية تحت التصرفات الربوبية .
وبالجمله ، التربية التكوينية من منزل مادة المواد والهيولى الأولى الى المنزل الحيواني وحصول القوى الجسمانية والروحانية الحيوانية ، وانّ كلا منها يشهد بأن الله جلّ جلاله ربي .
والثاني من مراتب الربوبية ، الربوبية التشريعة المختصة بالنوع الانساني وليس لسائر الموجودات فيها نصيب ، وهذه التربية هي هداية الطرق النجاة واراءة سبل السعادة والانسانية والتحذير من منافياتها قد أظهرها الله سبحانه بتوسط الأنبياء عليهم السلام ، فاذا وقع انسان بقدمه الأختيارية تحت تربية رب العالمين وتصرفه وصار مربى بتلك التربيه بحيث لم تكن تصرفات أعضائه وقواه الظاهرية والباطنية تصرفات نفسانية بل كانت تصرفات الهيه وربوبية يصل الى مرتبة الكمال الانساني المختص بالنوع الانساني .
ان الانسان الى أن يصل الى منزل الحيوانية يكون متماشيا مع سائر الحيوانات ومن هذا المنزل يكون أمامه سبيلان لابد أن يسلكهما بقدم الاختيار ، احداهما طريق السعادة وهي الصراط المستقيم لرب العالمين ، ان ربي على صراط مستقيم .
والثانية : طريق الشقاوة وهو الطريق المعوّج للشيطان الرجيم فإن جعل قواه وأعضاء مملكته في تصرّف رب العالمين وصار مربى بتربيته فيسلم القلب وهو سلطان هذه المملكة له واذا صار القلب مربوبا لرب العالمين فيقتدي سائر جنوده له وتصير المملكة كلها مربوبة له ، وفي هذا الوقت يتمكن لسانه الغيبي وهو ظل القلب أن يجيب ملائكة عالم القبر حين تقول له من ربك ؟ بأن : الله جلّ جلاله ربي . وحيث أن هذا الشخص قد أطاع رسول الله واقتدى بأئمة الهدى وعمل بكتاب الله فينطق لسانه بقوله : محمد صلى الله عليه وآله نبيّي ، وعليّ وأولاده المعصومون أئمتي والقرآن كتابي ، لكنه إذا لم يصر القلب الهيا وربوبيا ولم ينتقش نقش لا اله الا الله ومحمد رسول الله وعلي ولي الله على لوح القلب ولم يصر صورة باطنية للنفس ولم ينتسب الى القرآن بالعمل به والتفكر والتذكر والتدبّر فيه ولم يرتبط هو بالقرآن ارتباطا روحيا ومعنويا ، ففي سكرات الموت وشدائده وفي حال الموت الذي هو الداهية العظمى تنمحي جميع المعارف عن خاطره .
أيا عزيزي ، ان الانسان ينسى جميع معلوماته عند ابتلائه بمرض أو ضعف قواه الدماغية الا أمورا قد صارت بشدة التذكر والأنس بها جزء من فطراته الثانوية ، واذا دهمته داهية عظمى ومخوفة فيغفل عن أكثر أموره ويخط خط النسيان على معلوماته ، فماذا يكون حاله في أهوال الموت وشدائده وسكراته ، واذا كان سمع القلب غير منفتح ولم يكون قلبه سميعا فلا ينفعه تلقين العقائد حين الموت وبعد الموت ، والتلقين ينفع لمن يكون قلبه خبيرا بالعقائد الحقه ويكون سمع قلبه منفتحا ، وقد حصلت له غفلة ما في تلك السكرات والشدائد فيصير التلقين وسيلة الى أن يوصلها ملائكة الله الى سمعه ، ولكن اذا كان الانسان أصم ولم يكن له سمع عالم البرزخ ابدا فلا يؤثر التلقين في حاله ، وقد أشير الى بعض ما قلناه في الأحاديث الشريفة . "
إنتهى النقل
-------------------------------------------------------
لا بأس بالإشارة مرة أخرى إلى إرتباط العمل بالعامل , حيث كنت قد ذكرت منه شيئا , و لكن و بعد مراجعتي , رأيت أنه من الأفضل أن أوسع المفهوم أكثر لكي يكون أكثر شمولية و وضوحا إن شاء الله , و ذلك ليس للمدخلية الرئيسية في هذه الإضافة في سير البحث , و لكن رغبة مني في أن أذكرها هنا .
إن الكيفية التي يرتبط بها العمل بعامله تمرّ بمراحل ثلاث هي :
الحال ثم الملكة ثم الإتحاد أو التحقق .
المرحلة الأولى : الحال
و نعني بها حصول حالة معينة لدى الإنسان بعد قيامه بعمل ما و لكن هذه الحالة سرعان ما تزول بزوال المؤثّر , و هي من قبيل صفرة الخوف و حمرة الخجل و من قبيل أن يسمع الإنسان موعظة في مسجد ما و تحصل لديه حالة نفسية معينة كحبٍّ للإنفاق أو رغبة في الجهاد أو خوف من الموت , و لكن هذه الحالة سرعان ما تزول بمجرّد أن يخرج من المسجد و تمرّ على الموعظة فترة زمنية قصيرة .
المرحلة الثانية : المَلَكة
و نعني بها إشتداد الحالة السابقة و قوتها في وجود الإنسان بحيث يتعذر أو يتعسر زوالها , كملكة الشجاعة في الشجاع و ملكة العدالة في العادل , و إذا زالت هذه الملكات فإنها سرعان ما تعود . إن الملكات الإنسان تحصل من خلال العمل , و الروايات الكثيرة تدل على أن العمل ملازم لعامله و لا ينفك عنه , و إنه في الآخرة حيّ ناطق .
المرحلة الثالثة : الإتحاد أو التحقق
و هي المرحلة التي تكون فيا الملكة جزءاً من وجود الإنسان بحيث لا يمكن زوالها منه , و هي أول درجات العصمة , و لذا لا يمكن تصوّر صدور المعصية – مثلا – من المعصوم صلوات الله و سلامه عليه , لأن ملكة العدالة قد إشتدت فيه حتى صارت جزءا من وجوده المبارك .
و يمكن تقريب هذه المراحل الثلاث من خلال مثال يضربه علماؤنا في هذا المقام , فلو أخذنا فحمة سودآء و وضعناها على النار , لمرت هذه الفحمة بمراحل ثلاث , الأولى تصبح حارة مع بقائها فحمة سودآء , و لو
زالت عن النار عنها فسرعان ما ترجع إلى ما كانت عليه , و هذه هي مرحلة " الحال " ثم يتحوّل ظاهر الفحمة إلى نار مع بقاء باطنها فحمة سودآء , و لو زالت النار عنها , فإن رجوعها إلى حالتها الأولى متعسّر أو بطيئ , و هذه هي مرحلة " الملكة " ثم لو بقيت تلك الفحمة على النار لتحوّلت إلى جمرة من النار حيث لا يمكن بعدها زوال النارية عنها و لو زالت النار عنها لما رجعت إلى طبيعتها الفحمية , و هذه هي مرحلة "الإتحاد أو التحقق " .
إذن تبيّن أن إرتباط الإنسان بمعلمه يمر بمراحل ثلاث , صالحا كان العمل أو طالحا , فالعمل الصالح كالصلاة أو الصوم أو إصلاح ذات البين أو الأإنفاق في سبيل الله له ظاهر و له باطن , كما هذا واضح لمن له أنس بالروايات المعصومية الشريفة , و باطنه هو الجنة و الروح و اليحان , فإذا التحد العمل مع الإنسان كان الإنسان هو الجنة لا أنه يدخل الجنة , " فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ " و ورد , إن الجنة لأشوق إلى سلمان من سلمان إلى الجنة , و ورد يا علي أنا مدينة الحكمة – و هي الجنة – و أنت يا علي بابها , و ورد عن الصادق عليه السلام أنه قال " ولايتنا هي الجنة " .
كل هذا بشرط أن يكون هناك إتحاد بين العامل و عمله و بين الإنسان و ملكاته ليكون هو الجنة , و من هنا كانت الصديقة الكبرى سيدة نسآء العالمين فاطمة الزهرآء سلام الله و صلواته عليها , جنّة , حتى ورد عن النبي الأعظم صلى الله عليه و آله الأطهار , " فإذا إشتقت إلى الجنة شممت رآئحة فاطمة " فهي صلوات الله عليها جنّة , و له صلى الله عليه و آله الأطهار من الشم الباطني ما يستطيع به شمّ رائحة الجنة .
و هكذا إذا صار الإنسان عالما حقيقيا , كان النظر إلى وجهه عبادة لأنه يكون حينئذ نظرا إلى الجنة , و منظره يذكّر بالله سبحانه و تعالى و رآئحته تفوح منها رائحة الجنة لمن يستطيع أن يشم , و يحضرني حديث الكسآء , إني أشم رآئحة جدي رسول الله صلى الله عليه و آله الأطهار .
و مثل هذا ما ينقل عن بعض أولياء الله الذين يرون الناس على صور مختلفة , و ما هذا في واقعه إلا رؤية لأعمال أولئك الناس التي إتحدت معهم فصارت تلك الملكات حقيقة لهم .
و مثل هذا الأمر جار في العمل الطالح الذي له ظاهر و باطن أيضا , فأكل مال اليتيم الطيب الذيذ في ظاهر , و لكن باطنه نار موقودة " ان الذين ياكلون اموال اليتامى ظلما انما ياكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " و إذا إفترضنا هذا الجزآء صار جزءا من وجود الإنسان فإن الإنسان سيكون هو قطعة من نار و سيدخل النار , " نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ " إذ تحرق الباطن لتخرج إلى الظاهر عكس حالها في الدنيا . و قد ورد أن بعض المجرمين الذين هم من أهل التابوت عندما يفتح عنهم الغطآء عنهم يئن أهل جهنّم من حرارة ذلك التابوت لأنهم هم قطعة من النار و أُدخلوا النار أيضا .
ثم إن كثيرا من الأعمال الإجرامية لا يستطيع أن يقوم بها كل أحد , كقتل المعصوم عليه أفضل الصلاة و السلام , و لا بد أن تصل الجريمة و الخباثة في هذا الإنسان القاتل إلى درجة عالية بحيث تكون جزءا من وجوده ليقدِم على عمل كهذا , و قد عبّر القرآن الكريم عن أمثال هؤلاء بقوله تعالى : " بلى من كسب سيئة واحاطت به خطيئته فاولئك اصحاب النار هم فيها خالدون " بحيث لا يرى بعد ذلك الخطيئة خطيئة بل يراها عملا حسنا " وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا "
و قد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة و أن الأعمال قد تكون حالات أو ملكات أو جزءا من وجود الإنسان , كما في قوله تعالى : " الذين امنوا وعملوا الصالحات " حيث وصف عملهم بالصالح , و أما هم فمسكوت عنهم و لعلّ الجزآء هنا بنحو الحال أو الملكة .
أما في في قوله تعالى : " واولئك من الصالحين " إشارة إلى أن هؤلاء ليس عملهم صالحا فقط , و إنما ذاتهم صالحة أيضا لأن الصلاح أصبح متحداً معها , و من الواضح أن الذات لا يصدر عنها إلا ما ينسجم مع طبيعتها " قل كل يعمل على شاكلته " و في هذا السياق ما ورد بشأن إبن نوح , قال تعالى : " إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح " أي أن وجوده وجود غير صالح , لا أن عمله غير صالح فقط .
و من هنا تجد أن الأنبيآء صلوات الله عليهم أجمعين وصفوا بالصالحين : " وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين "
ثم إن أعمال الإنسان الطالحة حينما تكون " حالا " كفي بضغطة القبر أو عذاب البرزخ مطهّرا له , فيأتي يوم القيامة و هو طاهر , أما إذا إشتدت هذه الحالة و تحوّلت إلى " مَلَكة " فلا تكفي ضغطة القبر و لا عذاب البرزخ لتطهيره ,بل لابد له من أن يدخل النار يوم القيامة لكي يطهر بها إن كان موحّدا , و إلا فإنه لن يخرج منها لأنه قطعة منها । و هكذا بمقدار إشتداد الملكات الطالحة فينا يكون مقدار عذابنا من حيث الشدة و الطول .
-------------------------------------------------------------------------
سُئلت :
لدي هنا سؤالان لو تكرمتم بالاجابة عليها ...
في مشاركتكم السادسة ذكرتم عن الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ..هلا تسهبون الحديث قليلا عن الكلم الطيب ومصاديقه كي تنورونا اكثر؟؟ مع الشكر الجزيل....ثانيا ذكرتم بان زيارة الزهراء سلام الله عليها هي اروع مايتطهر به الانسان فهل تقصدون عن نفس الزيارة الموجودة في المفاتيح مثلا ام هناك صيغة او طريقة اخرى لزيارتها سلام الله عليها ؟؟
في مشاركتكم السادسة ذكرتم عن الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ..هلا تسهبون الحديث قليلا عن الكلم الطيب ومصاديقه كي تنورونا اكثر؟؟ مع الشكر الجزيل....ثانيا ذكرتم بان زيارة الزهراء سلام الله عليها هي اروع مايتطهر به الانسان فهل تقصدون عن نفس الزيارة الموجودة في المفاتيح مثلا ام هناك صيغة او طريقة اخرى لزيارتها سلام الله عليها ؟؟
بشأن أسئلتكم الكريمة , فإن شاء الله إني مجيبكم عليها على قدر إستطاعتي في ما يأتي من الأيام إن شاء الله تعالى , و أسئل الله أن يخرجني من هذه المحنة بنجاح و توفيق حتى أتفرغ لكتابة هذا الشرح إن شاء الله , و أرجوا منكم أن لا تنسوني من صالح دعواتكم بالتوفيق و النجاح لهذا الفقير بحق فاطمة الزهرآء سلام الله عليها .
---------------------------------------------------
{ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ }
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ }
قيل بيان لما يطلب به العزّة وهو التّوحيد والعمل الصّالح.
والقمّي قال كلمة الاخلاص والاقرار بما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله من عند الله من الفرائض والولاية ترفع العمل الصالح الى الله.
وعن الصّادق (صلوات الله و سلامه عليه ): الكلم الطّيّب قول المؤمن: لا اله الاّ الله، محمّد رسول الله (صلى الله عليه و آله الأطهار)، علىّ ولىّ الله (صلوات الله و سلامه عليه ) وخليفة رسول الله (صلى الله عليه و آله الأطهار)، والعمل الصّالح الاعتقاد بالقلب انّ هذا هو الحقّ من عند الله لا شكّ فيه من ربّ العالمين،
وعنه (عليه أفضل الصلاة و السلام ) فى هذه الآية قال: ولايتنا اهل البيت، واومى بيده الى صدره، فمن لم يتولّنا لم يرفع الله له عملاً،
وفي الإِحتجاج عن امير المؤمنين عليه السلام من قال لا اله الاّ الله مخلصاً طمست ذنوبه كما يطمس الحرف الاسود من الرّق الأبيض فاذا قال ثانية لا إله الاّ الله مخلصاً خرقت ابواب السماء وصفوف الملائكة حتى تقول الملائكة بعضها لبعض اخشعوا لعظمة امر الله فاذا قال ثالثة مخلصاً لا إله إلاّ الله لم تنته دون العرش فيقول الجليل اسكتي فوعزّتي وجلالي لاغفرنّ لقائلك بما كان فيه ثم تلا هذه الآية { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ } يعني اذا كان عمله خالصاً ارتفع قوله وكلامه { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ } المكرات السيّئات قيل يعني مكرات قريش للنبيّ صلّى الله عليه وآله في دار النّدوة وتدارئهم الرّأي في احدى ثلاث حبسه وقتله واجلائه.
وعن الباقر (عليه أفضل الصلاة و السلام ) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله الأطهار): " انّ لكلّ قولٍ مصداقاً من عملٍ يصدّقه او يكذّبه فاذا قال ابن آدم وصدّق قوله بعملٍ رفع قوله بعمله، واذا قال وخالف عمله قوله ردّ قوله على عمله الخبيث وهوى فى النّار "
فإن كل علم و إعتقاد قلبي يترشح منه نوع من العمل يناسب ذلك العلم كذلك العكس , فإن كان نوع من العمل صالحا أو طالحا فإنه يركز و يحصل في النفس نوعا خاصا من العلم و الإعتقاد ينسجم معه , فمثلا عن عمل الطالح : " ثم كان عاقبة الذين اساؤوا السواى ان كذبوا بايات الله وكانوا بها يستهزؤون " و كذلك قوله تعالى " فاعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه بما اخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون "
و قد ورد عن صادق عترة الطاهرة سلام الله و صلواته عليه و عليها : " العلم مقرون بالعمل , فمن علم عمل و من عمل علم "
و أيضا في حديث نبوي شريف : " من عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يعلم " و هو معنى قوله تعالى : " من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاخرة من نصيب "
و كذلك معنى قوله تعالى : " اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر اولئك هو يبور "
و قد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبيطالب صلوات الله و سلامه عليهما و كذلك عن رسول الله الأعظم صلى الله عليه و آله الأطهار : " (ليس العلم في السماء فينزل إليكم، ولا في الأرض فيخرج إليكم، إنما العلم في قلوبكم، تخلّقوا بأخلاق الروحانيين يخرج اليكم) "
و هذه الآيات أيضا تدل على مدخلية الولاية في قبول العمل شرطا كما تدل على هذا المطلب أيضا آية : " واني لغفار لمن تاب وامن وعمل صالحا ثم اهتدى "
العلم من المعاني الإضافية التي يتوقف تعلقها وتصورها على معانِ أُخرى، فهو رابط بين العالم والمعلوم، أي بين ما كان مجهولاً من قبل فصار معلوماً عند العالم بعد العلم به، فبعد أن يكون الشيء مجهولاً فيكشف أمره لمن أراد أن يعلم به، فيكون معلوماً، فيكون العلم الذي هو بمعنى الكشف والظهور ورفع الجهل، وانطباع صورة الشيء في الذهن، أو حصوله في الذهن.
وهو إما أن يكون حصولياً أو حضورياً ـ كما هو المذكور بالتفصيل في كتب الفلسفة والمنطق ـ إلا أنه من ناحية أخرى لنا تقسيم جديد، فإنه ينقسم الى اللدنّي والكسبي، او بعبارة اخرى : الى العلم الإلهي من لدن حكيم مباشرة او بوسائط بشرية كالأنبياء والأوصياء والعلماء.
ويقصد من الأول أنه من عند الله من لدن حكيم، وهو يختص بخاصّة عباده، والثاني لعامة الناس. ثم اللدنّيّ على نحوين: فإما ان يكون وحياً بملَك أو غيره، كالرؤيا النبوية للأنبياء والمرسلين، او إيحاءً، وهو على نحوين أيضاً : إما ان يكون قرعا في الأسماع ونكتا في القلوب، وهو مختص بالأوصياء والأئمة الأطهار(عليهم أفضل الصلاة و السلام )، او إلهاماً من الله سبحانه، وهذا من الكلّي التشكيكي، و هو ذو مراتب طوليّة وعرضيّة، ينزل من السماء، بفيض من الله عزوجل يختص به الأولياء والمؤمنون الصلحاء، فإن المؤمن محدَّث ـ بفتح الدال ـ تحدثه الملائكة إلهاماً، كما ورد في دعاء المطالعة حيث يستحب الدعاء قبل مطالعة الكتاب : (اللهم ارزقني فهم النبيين وحفظ المرسلين وإلهام الملائكة المقربين)، كما أنه ورد في أوصاف المؤمنين والمتقّين أن الله يناجيهم في سرّهم ـ أي نفوسهم ـ فيلهمهم سبحانه وتعالى من العلم اللدنّي الالهي ـ وربما من هذا ما ورد في حق السيدة زينب الكبرى عليها السلام عن الأمام السجاد(عليه أفضل الصلاة و السلام ) : (انت عالمة غير معلمة) ـ .
وقد ورد في أحاديثنا الشريفة: (ليس العلم بكثرة التعلم، إنما العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء أن يهديه)، وايضاً: (ليس العلم في السماء فينزل إليكم، ولا في الأرض فيخرج إليكم، إنما العلم في قلوبكم، تخلّقوا بأخلاق الروحانيين يخرج اليكم)، و (القلوب أوعية خيرها اوعاها)، وإنَّ قلب المؤمن حرم الله وعرش الرحمن وبيته المعمور.
{وَ اتَّقُوا اللهَ وَيُعَلّمُكُمُ اللهُ}(البقرة: 282)
ثم دائرة هذا العلم الإلهامي والذي يتناسب مع الذوق السليم والكشف الصادق هي المعارف الربّانية وعلم حقائق الأشياء، والتي يتخلص منها المعرفة الجمالية والكمالية في الأحكام الشرعية وبواطن الأمور وملكوتها، فإن الحكم الإلهي في الشرائع السماوية إنما هو توقيفي، فانه يتوقف على إذن من الشارع المقدس، ولا يحق لأحد أن يضع حكماً شرعياً ويجتهد في مقابل النصّ، والعلم بالأحكام الشرعية من العلم الظاهري، يتكفل في إستنباطها في أيام الغيبة الكبرى الفقهاء العظام ـ مع اجتماع الشرائط فيهما كما هو مذكور في الكتب الفقهية ـ وأما معرفة حكمة الحكم الشرعي فهو من العلم الباطني الملكوتي الغيبي، ويدخل في إطار العلم اللدني الالهامي، وإنه يتوقف على تهذيب النفس وصفاء الروح، فكلما صفا القلب وتنوّر كان مرآة لمعرفة جمال الأشياء وكمالها، وهي المعرفة الحقيقية، وإنها نتيجة التقوى والروحانية في المؤمن، وإنها من مائدة الله، قد أعدّها لمن كان ضيفه ووفده في مثل شهر رمضان المبارك أو الحج أو الزيارة أو الأوقات المقدسة أو الأماكن والمشاهد المشرّفة، او في خدمة القرآن الكريم، وفي كل ما ينسب اليه عزّ وجلّ، فمن يزور المؤمن لا لحاجة عنده، بل للزيارة وحسب، فهو ضيف الله في عرشه ـ كما ورد في الأثرـ ويكون على موائده من الأسماء الحسنى والصفات العليا، فيتنعم في الحضرة القدسية، ويتلذذ بذكر الله جل جلاله، ويطمئن قلبه، وينشرح صدره، ويفنى في توحيده وجلاله وجماله وكماله، ويطوف مع ملائكته حول عرشه، وفي الأرض يطوف جسده مع الناس حول الكعبة المشرفة في بيت الله الحرام، وروحه معلّقة بالملأ الأعلى، ويطوف بقلبه حول البيت المعمور في السماء الرابع، وحول العرش في السماء السابع، وتفتح عندئذ بصيرته، وباب فهمه، ليرى ملكوت السماوات والأرض، فيرى حقائق الأشياء كما هي، ويقف على أسرار الكون والخلقة بحسب الطاقة البشرية، ويعرف نفسه فيعرف ربّه، فيزهد في الدنيا وما فيها من الزخارف والزبارج، فإنه يرى حقيقتها الدنيّة والزائلة، وأنها أدام الكلاب، فإن الدنيا جيفة وطّلابها الكلاب، يتكالبون على متاعها الزائل، ومظاهرها الفانية، ورذائلها الخسيسة، وأوهامها وأباطيلها المقيته، إنه يعرف فلسفة الحياة وسرّ الخليقة، فيشدّ حزامه لآخرته، إذ يرى أنه لم يخلق للدنيا، بل هي دار ممرّ، فهو ابن الآخرة وابن جنّاتها التي عرضها السماوات والأرض، أُعدت للمتقين، يسبّح في غمراتها، وينال رضوان الله وغفرانه.
وإنما ينال هذا العلم الإلهامي بالتقوى، قال سبحانه وتعالى:{وَ اتقَّوا اللهَ وَيًعَلّمُكُمُ اللهُ}.(البقرة: 282)
فالمؤمن مُلهم، يفيض الله عليه من علمه المطلق غير المتناهي، وتنكشف له بعض الحقائق الكونيّة، وبعض أسرار العبادات والأحكام الشرعية، ويقف على بعض حِكم المصالح والمفاسد، وتفتح له آفاق جديدة في المعارف والعلوم، ومِن رجال العلم النافع والعمل الصالح مَن تنكشف له الحقائق كل يوم بالعشرات، ومنهم في العام تنكشف له حقيقة من الحقائق، ولله في دهركم نفحات قدسية ألا فتعرضوا لها .
ولمّا كان اصل جميع الكلم الطّيّب هو كلمة الولاية والقول بها والاعتقاد بها صحّ تفسير الكلم بالولاية، ولمّا كان اصل جميع الصّالحات هو عمل الولاية الّتى هى البيعة الخاصّة الولويّة الّتى يترتّب عليها جميع الخيرات وجميع الاعمال الصّالحات ولا يصير الصّالح صالحاً الاّ بها صحّ تفسير العمل الصّالح بها مع انّ الآية عامّة لجميع الكلمات وجميع الاعمال
و قد وردت آيات أخرى تبين معنى و مصداق للكلمة الطيبة , بذكر مثال , قال الله تعالى شأنه و تقدس :
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء
فقد وردت في رواياتنا الشريفة بيان مصداق هذه الآيات الشريفة :
ففي تفسير القمي عن ابيه عن الحسن بن محبوب عن ابى جعفر الاحول عن سلام بن المستنير عن ابى جعفر (عليه السلام) قال سألته عن قول الله " مثل كلمة طيبة الآية " قال الشجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) اصلها نسبه ثابت في بني هاشم وفرع الشجرة علي بن ابي طالب (عليه السلام) وغصن الشجرة فاطمة (عليها السلام) وثمرتها الائمة من ولد على وفاطمة (عليهم السلام) وشيعتهم ورقها وان المؤمن من شيعتنا ليموت فتسقط من الشجرة ورقة وان المؤمن ليولد فتورق الشجرة ورقة قلت أرأيت قوله " تؤتي اكلها كل حين باذن ربها " قال يعني بذلك ما يفتون به الائمة شيعتهم في كل حج وعمرة من الحلال والحرام ثم ضرب الله لاعداء محمد مثلا فقال (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار " وفي رواية ابى الجارود عن ابى جعفر (عليه السلام) قال كذلك الكافرون لا تصعد اعمالهم إلى السماء وبنو امية لا يذكرون الله في مجلس ولا في مسجد ولا تصعد اعمالهم إلى السماء إلا قليل منهم.
و المتتبع يرى أن في كثير من الآيات الذكر الحكيم قد ورد لفظ الشجرة , فما هو المراد منها , فمثلا مالمراد من الشجرة الطيبة التي عبر عنها القرآن الكريم , " مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء " أو " شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار " و في المقابل أيضا " ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار " أو الشجرة المعلونة في القرآن : " والشجرة الملعونة في القران " وهي بني أمية و قد رأيت قبل قليل قول الباقر عليه السلام عن الشجرة الخبيثة في الرواية السابقة , بأن الشجرة الخبيثة بنو أمية ,و كذلك شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم , وعشرات الآيات التي تحدثت عن الشجر وعن الشجرة في القرآن ، أما لماذا القرآن الكريم اعتنى بان الحقائق عندما اراد ان يبينها بينها من خلال التمثيل بالشجرة {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَايَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} واذا راجعنا الروايات نجد هناك المئات من الروايات التي شبهت النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين بالشجرة واوراق الشجرة وثمار الشجرة والى غير ذلك , و هنا يجب أن يلتفت إلى هذه الحقيقة القرآنية , بان تفسير الآية شيء ، وبيان مصاديق هذا المفهوم القرآني شيء آخر ، نحن عندما نأتيالى قوله تعالى (يا ايها الذين امنوا .. افعلوا هكذا) الآيات التي عنونت بعنوان (ياايها الذين امنوا) كثيرة ، طيب اذا وجدنا بعض الروايات تقول ان المراد علي بن ابيطالب ، المراد بعض الاولياء ، بعض المؤمنين ، هذا ليس تفسيراً للآية المباركة ،وانما هو بيان مصداق من مصاديق الآية المباركة لان هذا العنوان عنوان عام يشمل علياً (عليه السلام) ويشمل كل مؤمن و لكن يبقى على نحو الحقيقة المصداق الحقيقي الذي ينطبق عليه الآية بالنحو الحقيقة و الصدق عليه هو أمير المؤمنين سلام الله عليه و بالنسبة لباقي الأولياء و المؤمنين إنما تكون بالتبعية , و هذا فرق جوهري يجب أن لا ننساه . فكذلك عند قوله تعالى { إِنَّاأَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} لم ترد في رواياتنا الشريفة بأن المراد وتفسير الكوثر في القرآن يعني فاطمة (سلام الله عليها) وان كان واحداً من اسماء الزهراء البتول هو الكوثر ، الكوثر هو الخير الكثير ومن اوضحوابين مصاديق الخير الكثير هي الزهراء الصديقة الكبرى (سلام الله عليها) ، في المقام ايضاً كذلك ، فهذه قاعدة عامة ، عندما نأتي الى نص قرآني روالى آية قرآنية ، لا يمكن ان نقول ان تفسيرها كذا ونذهب الى الرواية ، الروايات ليس بالضرورة دائماً تبين تفسير الآية ، في كثير من الاحيان الروايات تبين مصاديق الآية . مثلاً على سبيل المثال , نحن عندما نأتي الى سورة النحل الآية(97)قال تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَمُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} ، هذه الحياة الطيبة . الآن لوعندنا عشرات الروايات بينت من الحياة الطيبة الجنات ، من الحياة الطيبة الانهار ،من الحياة الطيبة الحور العين ، اي كل ملاذ في الجنة ، هذا ليس تفسير للآية المباركة ، وانما هو بيان لمصاديق الحياة الطيبة . نحن لا يمكن لنا اذا ورد قوله تعالى { كُلُواْوَاشْرَبُواْ} وورد في ذيلها مثلاً (كلوا الاكل الكذائي ولا تأكلوا الاكل الكذائية) نقول هذا تفسير للآية ، هذا ليس تفسير للآية ، هذا بيان مصداق من مصاديق الآية ، على اساس هذه القاعدة طبعاً بخلاف بعض الاحيان الآية فيها روايات تفسر ، مثلاً على سبيل المثال حتى يتضح المطلب قال تعالى{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَأَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ، هنالك روايات قالت بان المراد من اهل البيت علي وفاطمة والحسن والحسين وعلى رأسهم رسول الله صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين ، هذا ايضاً بيان مصداق ؟ كلا الجواب , هذا تفسير الآية ، ليس ان هذه الآية قادرة على ان تنطبق غير هؤلاء الخمسة ، لا ، لاتنطبق إلا على هؤلاء الخمسة ، و كذلك إن لهذه المسئلة نوع ربط بمسئلة الألفاظ و المعاني و ترابطهما ببعض و هذا المبحث سيأتي إن شاء الله في خلال الشرح بحول الله و قوته تعالى , و لكن على سبيل الإشارة و التفصيل في محله يجب أن يُعلم بأن الحقائق التي ذكرت في القرآن الكريم و الروايات الشريفة في قالب كلمات و أحرف , إنما هي تشبيه و إلا فالحقيقة أعلى و أعظم من هذا بكثير , و هذا راجع إلى مبحث نزول القرآن الكريم بالتجلي و ليس بالتجافي , و هو بحث مستفيض كنت قد ذكرت بعض جوانب منه في السنوات الماضية , راجع موضوع {}{}{}( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ){}{}{}
و لكن لنرجع إلى مبحث الآية الكريمة , حيث إبتعدنا عنه كثيرا ,
إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه
الإعتقادات الصحيحة الحقة هي الكلم الطيب لأن الكلمة في القرآن لا تدل على اللفظ ، بل على ما ورائها من معنى ، كما قال ربنا سبحانه : " و مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء "
فهذه العقائد تصعد إليه , إليه يصعد الكلم الطيب , و لكن هذه تحتاج لمن يرفعه إلى الله , لأن بنفسها لا تستطيع , و الذي يرفعه هو العمل الصالح , و هذا الضمير يرفعه يعود إلى الكلم الطيب , فمن هنا تجد لطافة التعبير القرآني حينما يخاطب بقوله تعالى : الذين امنوا وعملوا الصالحات , و إذا كانت كلمة خبيثة فهي لا تصعد خصوصا إذا ترتبت عليها عمل خبيث , فقوله تعالى : " وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ " يكون الفاعل لقوله " يَرْفَعُهُ " ضمير مستتر تقديره العمل الصالح، والهاء ضمير المفعول به يرجع إلى الكلم الطيب فيكون حاصل المعنى من " يَرْفَعُهُ " هو (يرفع العملُ الصالحُ الكلمَ الطيبَ) أي أن العمل الصالح يُساهم في رسوخ الإيمان وهو ما يُوجب زيادة القرب لله تعالى.
فليس معنى الآية أن الكلم الطيب يصعد والعمل الصالح يُرفع فإن ذلك يكون صحيحاً لو كان ضمير الفاعل في يرفع راجع لله تعالى، والأمر ليس كذلك بل أن ضمير الفاعل يرجع للعمل الصالح فيكون حاصل المراد من الآية هو أن الكلم الطيب يصعد والعمل الصالح يساهم في درجة صعوده .
فعلى هذا ففي يوم القيامة يتحد الإنسان مع عمله و إعتقاده , فعندما يظهر باطن العمل يظهر باطن وجود الإنسان , " ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا " و هو كتاب النفس , " اقرا كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " , لأن كل نفس عليها بصيرة , " بل الانسان على نفسه بصيرة " فيوم القيامة يظهر للإنسان باطن وجوده , فيريه الله عز و جل , باطن نفسه , و قد كنا تحدثنا عن الكيفية التي يرتبط بها العمل بعامله الذي لا ينفك عنه و التي تمرّ بمراحل ثلاث هي : الحال ثم الملكة ثم الإتحاد أو التحقق , و كذلك كنا قد تكلمنا عن قاعدة إتحاد العاقل و المعقول , و محصلة هذه الأمور التي ذكرناها , هي أن الجزآء باطن العمل , و كذلك ما يمكن بواسطة هذه التوضيحات تقريبا لمعنى بعض الروايات الشريفة حينما تقول أن الإمام عليه السلام هو الصلاة و هو الحج ووو لإتحاد حقيقة هذه الأعمال مع حقيقتهم القدسية الشريفة :
ويؤيد هذا ما رواه الشيخ أبو جعفر الطوسي باسناده إلى الفضل بن شاذان، عن داود بن كثير، قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: أنتم الصلاة في كتاب الله عزوجل وأنتم الزكاة، [ وأنتم الصيام ] ، وأنتم الحج ؟ فقال: يا داود نحن الصلاة في كتاب الله عزوجل، ونحن الزكاة، ونحن الصيام، ونحن الحج، (ونحن الشهر الحرام) ، ونحن البلد الحرام، ونحن كعبة الله ونحن قبلة الله، ونحن وجه الله، قال الله تعالى: ( فأينما تولوا فثم وجه الله) ونحن الآيات، ونحن البينات. وعدونا في كتاب الله عزوجل: الفحشاء والمنكر والبغي والخمر والميسر والانصاب والازلام والاصنام والاوثان والجبت والطاغوت والميتة والدم ولحم الخنزير. يا داود إن الله خلقنا فأكرم خلقنا وفضلنا وجعلنا امناءه وحفظته وخزانه على ما في السموات و (ما في) الارض، وجعل لنا أضدادا وأعداء، فسمانا في كتابه، وكنى عن أسمائنا بأحسن الاسماء وأحبها إليه تكنية عن العدو ، وسمى أضدادنا وأعداءنا في كتابه، وكنى عن أسمائهم، وضرب لهم الامثال [ في كتابه ] في أبغض الاسماء إليه، وإلى عباده المتقين . ويؤيد هذا ما رواه أيضا عن الفضل بن شاذان باسناده عن أبي عبد الله عليه السلام : نحن أصل كل خير، ومن فروعنا كل بر، ومن البر التوحيد والصلاة والصيام وكظم الغيظ، والعفو عن المسئ، ورحمة الفقير، وتعاهد الجار، والاقرار بالفضل لاهله. وعدونا أصل كل شر، ومن فروعهم كل قبيح وفاحشة. ومنهم الكذب والنميمة، والبخل والقطيعة، وأكل الربا وأكل مال اليتيم بغير حقه، وتعدي الحدود التي أمر الله عزوجل [ بها ] ، وركوب الفواحش ما ظهر منها وما بطن: من الزنا والسرقة وكل ما وافق ذلك من القبيح . وكذب من قال أنه معنا، وهو متعلق بفرع غيرنا . ومن ذلك ما ذكره الشيخ أبو جعفر محمد بن بابويه (رحمة الله عليه في كتاب الاعتقادات) وذكر شيئا من تأويل القرآن فقال: قال الصادق عليه السلام: وما من آية في القرآن أولها (يا أيها الذين آمنوا) إلا وعلي بن أبي طالب أميرها وقائدها وشريفها وأولها. وما من آية تسوق إلى الجنة إلا [ وهي ] في النبي والائمة عليهم السلام وأشياعهم وأتباعهم.
أن العقل والنقل أقصى غايتهما "علم اليقين"، بينما الكشف والشهود والمعاينة غايتهمأعلى من ذلك "عين اليقين"، ثم "حق اليقين"، أنت تسمع خبرا بأن الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة و السلام سيد شباب أهل الجنة، مجرد خبر، او رواية أو حديث، لكنك عند هذه الطائفة لابد أن ترى الجنة، وترى فعلا من هو سيدها، حتى يتسنى لك أيضا مشاهدة ورؤية سيدي كهول أهلالجنة، بدلا من أن تعتمد على نفي ذلك بمجرد روايات، فـ "عين اليقين" أن ترى الجنةومن فيها، حيث ترى ألا كهول هناك، كي يكون لهم سادة، وتتشرف برؤية الأئمة الآثنىعشر عليهم أفضل الصلاة و السلام بدلا من كونك من المحرومين الذين تشرفوا فقط بلقاء خاتمهم سلام الله و صلواته عليه و عجل الله فرجه الشريف .
و بودي الإشارة إلى أمر مهم و في غاية اللطافة , ورد في كتاب المقامات العلية للشيخ عباس القمي (قدس سره) ان من علامات صاحب اليقين ان يكون مستجاب الدعوة وصاحب كرامات فقال في مورد حديثه انه بقدر مايزداد يقين الانسان يغلب الجانب التجردي فيه ولهذا السبب تحصل لديه قوة التصرف في جميع الكائنات التي هي من شأن المجردات , و على هذا علينا أن نعلم بأن عالم الناسوت لا يتحقق فيه الفعل من أحد إلا بالعلاج والاستعانة بالجوارح ونحوها. فيتقيد العمل بالنظام الكوني. وأما العالم الخالي من الناسوت الذي لا يحتاج الفاعل فيه إلى المادة والماديات، فيصدر منه الفعل ولا يتقيد بالنظام الكوني. وهوالذي يعبر عنه بالكرامة والمعجزة في بعض الأحيان , و ظهور هذه الفعلية للإنسان بعدما كان منفعلا , و خروجه من القوة إلى الفعل , هو من خلال التصفية و التزكية , و كذلك من جهة أخرى فإن الله عزوجل قد أعطى للإنسان القوى و هذه القوى كامنة في الإنسان , و إليه الإشارة في قول الأمير صلوات الله و سلامه عليه , أتزعم أنك جرم صغير و فيك إنطوى العالم الأكبر , و هذه ليست فقط علوم متعلقة بعلوم معارفية و حسب , بل علوم الأسرار من تسخير الكون و سائر الأمور في طول إرادة الله عز و جل , فإن النفس البشرية مثل المنشور زجاجي , و إن كان هذا تشبيه و إلا فإنه لا يمكن تصور حقيقة النفس لأنها مجردة عن الجسمية , قلنا فإن النفس البشرية مثل المنشور الزجاجي أحاطت بأطرافه بلورات وضع أمام النور يرى الناظر إليه الوانا مختلفة بحسب اللون النافذ من كل هذ البلورات " أصفر , أحمر , أخضر " و من يمعن النظر يرى أن تحليل اللون هذا لا يؤثر على ماهية النور و كونه منشأ لكل الألوان , كذلك النفس فإنها تعرض وجودها دائما على طريق واحد و هو القوى و تعدد القوى لا يخرج النفس عن وحدتها و عن كونها مركز القوى و مركز كل الفعاليات النفسية و منبعها الفياض , و الفرق الذي هو بين الأولياء و سائر الخلق , هو أنهم أي أولياء الله عز و جل إستطاعوا تفجير هذه الطاقات الكامنة فيهم , فإن الله عز و جل أعطى لكل مخلوق إنساني رأس مال في حياته , عبر عنها بالطاقة , عبر عنها بالعمر , عبر عنها ما شئت , و بنفاد هذه الطاقة تنتهي نصيبه في عالم الدنيا التي بهذه الطاقة يعمل في هذه الدنيا و يزرع آخرته , فمادام عندك طاقة فعندك قدرة للعمل, و لكنك محدود بأطواق هذه الدنيا , و في بعض الأحيان قد يعجل الإنسان بخروجه من عالم الدنيا قبل نفاد هذه الطاقة , فتتفجر عنده هذه الطاقات الكامنة , لأنه خرج من طوق عالم الناسوت , و هذا الخروج من عالم الدنيا و معك بقية من هذه القوة الكامنة تعطيك دافع قوي جدا في السير التكاملية , و تطوي أشواطا بعيدة و سريعة , و هذا الخروج من الدنيا بهذه الكيفية ممكن من خلال طريق شرعي و هو الشهادة في سبيل الله عز و جل , فلذا كان الشهيد أسرع و ارقى في الكمال من غيره لأنه يطوي مسيرة ألف سنة بلحظة , أو إذا إنتحر أو قتل على غير طاعة الله فإن سيره يكون تسافليا , بغير ما إذا كان حالة قبضه في طاعة الله و سائرا إليه بتوجه منه .
فإن الله عز و جل قد خلق الإنسان في أحسن تقويم , و أودع فيه كل أسرار الكون و جعل الكمال فيه و جعله المهيمن على سائر الخلق , فإن علم بهذه الأسرار سخر و سيطر باقي الكائنات له , و هذا نوع من الولاية التكوينية التي بالإمكان الحصول عليها لغير المعصومين عليهم السلام من أوليائهم الخلص , و لعل أقول لعل فيها الإشارة إلى , " و علم آدم الأسماء كلها " , و لكن هذه القوى , الله عز و جل لم يجعلها في الخارج , بل طواها و جعلها في طوية الإنسان و غلفها بحجب , أو بتعبير آخر , ما من صفة إلهية إلا و قد جعل الله عز و جل نسخة منها في الإنسان , لكون أن غاية التي خلق لأجلها الإنسان أن يكون خليفة الله عز و جل , و لعل هذا حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه أو لعل الرب بمعنى المربي و الراعي الذي ربت هذه النفوس فهذا يرجع إلى تسلسل المخلوقات التي تشير الى النفس المطلقة الكلية التي هي نفس رسول الله صلى الله عليه و آله الأطهار التي منها خلقت النفوس , لعل تكون الإشارة إلى هذه الآية الكريمة "وهو الذي انشاكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الايات لقوم يفقهون " النفس الكلية هي النفس المحيطة المهيمنة على ما تحتها وإثبات وجودها كما يظهر ممنيقول بها نفس الطريق الذي يثبت به تسلسل صدور الممكنات عن واجب الوجود , فالعرفاء يفترضون أن العالم وجود واحد حقيقة، وله عقل يسمى بالعقل الأول، وله نفس هي لكلعالم الإمكان تسمى النفس الكلية، كما أن للإنسان عقل ونفس جزئية.
وقد ذكرت عدةتعاريف لهذا المصطلح:
منها: إنّ النّفس الكلّيّة إنّما هي قوّة روحانيّة فاضتمن العقل بإذن الباري جلّ ثناؤه، أي فاض من العقل الفعّال فيض آخر دونه في الرّتبةيسمّى العقل المنفعل، و هي النّفس الكلّيّة.
ومنها: جوهرة روحانيّة بسيطة قابلة للصّور و الفضائل من العقل الفعّال على التّرتيب و النّظام . و من هذه النفس المطلقة الكلية تفرعت باقي النفوس و حتى نفوس الملائكة , فمن عرف نفسه عرف آل محمد صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين , و في هذا تفصيل نتركه لقلة البضاعة .
لنرجع لموضوعنا , فبعد أن أودع و أبطن الله عز و جل هذا الكمال و هذه القوى في الإنسان , أنزله إلى عالم الدنيا , عالم الملك , " ثم رددناه أسفل سافلين " , فهذه القوى كامنة فيه و قد أنزله الله الى عالم الملك , و أراد من الإنسان أن يهذب نفسه ليرفع عن نفسه و من خلال عمله و إختياره و إرادته هو , هذه الحجب ليطلق هذه الطاقات المودعة فيه إلى الخارج و يصعد في قوس الصعود ليكون حينها خليفة الله بحق , و إليه الإشارة إلى الحديث , الذي أوردته قبل قليل , العلم مجبول فيكم تخلقوا بأخلاق الروحانيين يظهر لكم , بتعبير آخر متسلح بجنود الرحمن أو العقل , عبر عنها بالقوى العقلية مثل ما تعبر عنها رواية الشريفة المروية عن صادق عترة الطاهرة سلام الله عليه و عليها , بجنود العقل و الجهل , فإن الرواية الشريفة قد بينت أن الأمر الإلهي قد صدر إلى العقل بالإدبار و الإقبال فاستجاب , و ذلك قوله عليه السلام : " فقال له أدبر فأدبر ثم قال له أقبل فأقبل " أي إنزل من عندي إلى عالم الملك و المادة , عالم الناسوت , و هو قوله تعالى , والله العالم , "ثم رددناه اسفل سافلين " أي أرجعناه إلى عالم الطبيعة و المادة , و حين يخرج من بطن أمه فإنه لا يعلم شيئا , " والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون " ثم بعد ذلك يأمره سبحانه و تعالى بالإقبال و الصعود و الإرتقاء إليه مرة ثانية من خلال تحصيل العلم و العمل الصالح " اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " أما الجهل فقد إستجاب للإدبار و النزول إلى عالم الملك و المادة و الطبيعة و لكنه – و لإستكباره - رفض الإقبال و الصعود و الإرتقاء مرة ثانية , فلعنه الله تبارك و تعالى .
فالنزول و إن كان بدون إختيار , إلا أن الصعود بإختيار الإنسان و بإستخدام عقله , و عليه يُثاب و بجهله في أسفل السافلين يستحق العذاب . و في سبيل الإستيناس لا الإستدلال أو الإستشهاد , نذكر هذه الآية الكريمة " فازلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين " ,
فلا شك إذا بأن نفس الإنسان مع أنها خارجة عن قيد الجسمية و المادية لكنها معبّأة بمختلف القوى التي أودعت فيها كحبّة صغيرة بذرت في الأرض فيتحرر ما إستتر فيها من القوى و الإستعدادات حالما يتوفر المحيط المناسب و عوامل التغذية لها , فتصبح بعد مدة شجرة قوية كثيفة الأغصان نضرة الأوراق معطآءة للفاكهة , و كذلك نفس الإنسان فهي ذات إستعدادات مختلفة تظهر بالتدريج في الموقع المناسب و بتأثير التعليم و التربية , و إشراق شمس الولاية عليها , و لكنها في الحالات العادية , لا تتجاوز حدود و زمان و مكان الجسم البشري , لأنها بمنزلة مقدمات و آلات ظهور الطاقات و الأفعال , فالرسام الماهر الذي يرسم بريشته في كل يوم رسما جديدا , لا شك أن فنه هذا محدود بنوع أدوات الرسم و جودتها , و هكذا نفس الإنسان , و الإعتقادات المتحدة بها ; فإنها تظهر لها في كل لحظة آثار جديدة عن طريق البدن و الدماغ لكنها لا تخرج عن إطار الزمان و المكان و هما محصورين كذلك .
و يجب أن نلتفت إلى أن هذه المحدودية الزمانية و المكانية التي ذكرت لنفس الإنسان , منحصرة بالأفراد العاديين , أما ما يخص النفوس النقية المتألقة المتحررة من القيود فلا وجود لهذه المحدوديات فيها أبدا , حيث تمتنع مقارنتها مع غيرها , فعلى هذا الأساس حينما تتحرر نفس الإنسان من قيد المكان فقط مثل ذلك التحرر الذي يحصل للعموم بعد الموت أو التحرر الذي يحصل لبعض المرتاضين أو لبعض الأفراد في عالم النوم أن في هذه الحالة يتساوى عند النفس الإرتفاع و الإنخفاض و البعد و القرب و ترتفع عنها الحجب و في النتيجة ترى الكثير من غير المرئيات و تسمع غير المسموعات و تدرك الغامضات , فإذا تحررت من قيد الزمان كذلك حصلت على صفاء و طهارة أكثر على الحقائق الناصعة في فهرس وقائع الكون و يمكنها أن تصل بذلك السمو و النورانية إلى حد النفوذ في داخل النفوس الآخرين , و تطلع على خلجاتها و تصوراتها حتى إذا حلقت إلى درجات أعلى من الصفاء أصبح حيز وجودها كنزا للأسرار و مرآة للعالم .
و أخيرا : فالعثور على طريق كشف أسرار الخلقة يرتبط إرتباطا متناسبا مع درجة صفاء الضمير , و بطبيعة الحال سوف يظهر هذا التحرر و الصفاء لكثير من الأفراد العاديين يوم البعث و النشور العام للعالم , و لا يستثنى هذا هنا إلا لعدة قليلة فقط , تكاد تعد بالأصابع , و أولئك هم الأطهار ذاتا و فطرة , و الحديث عن الطهار سيأتي إن شاء الله كما طلبتم إن وفقنا الله لذلك , و يرتبط مقدار نورانية العموم بهمتهم و سعيهم و مقدار إتباعهم لأهل بيت العصمة و الطهار صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين .
و هذا الأمر داخل أيضا في الهداية التكوينية للأئمة المعصومين عليهم السلام لحقائق الموجودات لموجودات , قال الله تعالى شأنه و تقدس ,وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِئَايَتِنَا يُوقِنُونَ , حيث يُلاحظ هنا انّ الله تعالى جعل مع كلمة الأئمةصفة تلازمها، ألا و هي الهداية بأمر الله، كما انّ هذه النكتة مشهودة في ءاية اخرى في قصّة سيّدنا ابراهيم على نبينا و آله و عليه أفضل الصلاة و السلام :
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسحَقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّا جَعَلْنَا صَلِحِينَ وَ جَعَلْنَهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إلَيهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَ تِ وَ إقَامَ الصّلَوَ ةِ وَ إيتَآءَ الزّكَوَةِ وَ كَانُوا لَنَا عَبِدِينَ
ويُلاحظ هنا انّه قد ذكر صفة ملازمة لكلمة الأئمّة ، أو بعبارة اخرى انّ جملة(يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)جملة تفسيريّة لمعنى الأئمّة .
لذا يجب ان يكون للإمامة عنوان الهداية أولاً ، و ان هذه الهداية هي بأمر الله ثانياً ؛ اي انّ الامام هو الذي يهدي الناس بأمر الله . والمراد بأمر الله هو الذي ذكر حقيقته في هذه الأية :
إِنّمَآ أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيئًا أَنيَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَنَ الّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْءٍ وَ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
و في الأية : وَ مَا أَمْرُنَا إلّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.
حيث يُستفاد من هذه الأيات أنّ أمر الله واحد لا تعدّدله ، اضافةً الى انّه ليس له زمان أو مكان ، و ثانياً انّ أمره هو إرادته ، فبمجرّد إرادته فانّ الموجود سيرتدي لباس الوجود ، و ذلك نفسه هو ملكوت كلّ موجود . وحين يريد الله إيجاد موجود بأمره ، أي ملكوت ذلك الموجود ، فانّهيوجده . [ أي حقيقته ]
و من الجلّي انّ الأمر هو نفس الجانب الثبوتي مقابل الخلق الذي يمثّل جانبالتغيّر و الزوال و الفساد .
قال تعالى : أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَهُ رَبّ الَعلَمِينَ.
و بناءً على هذا فانّ الموجودات لها وجهتان : وجهة خلقيّة، و هي التي يُشاهد فيها التغيّر والفساد والتدريج و الحركة، ووجهة الأمرالتي سيكون فيها الثبات و عدم التغيّر ،
و تلك الوجهة الأمريّة تسمّى بالملكوت ،و هي حقيقة و واقعيّةالموجودات،و التي تقوم به االوجهة الخلقية . و مع التغيرات و التبدّلات المشهودة في هذه الوجهة فانّتلك الوجهة [ الأمرية ] لا تتغيّر ولاتتبدّل .
هداية [ " التكوينية " ] الموجودات على يد الإمام :
و على هذا فانّ الأئمة الذين يهدون بأمرالله لهم تعامل مع ملكوت الموجودات [ أي مع حقائقها ] ، فهم يهدون كلّ موجود الى الله و يوصلونه من وجهته الأمرية ـ و ليس فقط من وجهته الخلقية ـ الى كمال الله تعالى . [ أي أن هذه الهداية ليست فقط الهداية بمعناها العرفي , بل هذه الهداية تشمل الهداية التكوينية التي هي حقيقة و ملكوت هذه الموجوات بأمر الله عز و جل ]
انّ قلب الموجودات بيدالإمام [ و هو قلب العالم ] ، فهو يهديهم الى الله تعالى من جهة السيطرة و الإحاطة بقلوبهم؛ فالإمام ـ إذاً ـ هو الذي يهدي الناسالى الله ، يهديهم بالأمر الملكوتي الموجود و الملازم له دائماً ، و هذه في الحقيقة هي الولاية بحسب الباطن في أرواح و قلوب الموجودات ، نظير ولاية كلّ فرد من أفراد البشر عن طريق باطنه و قلبه بالنسبة الى أعماله ، و هذا هومعنى الإمام .
أمّافي الأية الشريفة فانّ الله تعالى يبيّن علّة منح هذا المنصب بهذه الكيفيّة :
لَمّا صَبَرُوا وَ كَانُو ابِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ.
أحدها الصبر في طريق الله ، و المقصود بالصبرالإستقامة و الثبات في جميع الامتحانات والابتلاءآت التي تعرض للعبد في طريق العبوديّة والوصول الى المراد ، و الأخر أن يكونوا قد وصلوا الى مرحلة اليقين قبل ذلك .
و نرى في ءاياتٍ من القرءان المجيد انّها تَعُدّ علامةَ اليقين كشفَ الحجب الملكوتيّة ، فصاحب اليقين هو الذي يدرك حقائق الموجودات وملكوتها، والمحجوب هو الذي يغطي قلبه ستار يمنعه من مشاهدة الأنوار الملكوتيّة،
مثل قوله تعالى :
وَ كَذَ لِكَ نُرِى إبْرَ هِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَ تِ وَالأَرْضِوَ لِيَكُونَمِنَ الْمُوقِنِينَ.
و هذه الأية تشير الى انّ إرادة [ الأصح " إراءة " ] ملكوت السموات و الأرضكان مقدّمة لإفاضة اليقين على قلب ابراهيم ، و من هنا فانّاليقين لن ينفصل عن مشاهدة الانوار الملكوتيّة .
و كقوله تعالى : كَلّا لَوْتَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَروُنّ الْجَحِيمَ.
لو كنتم تعلمون كعلم أصحاب اليقين ، لرأيتم الجحيم و لشاهدتم حقيقة جهنّم أي ملكوت الأفعال القبيحة و معصية الله و النفس الأمّارة .
و كقوله تعالى : كَلّا إنّ كِتَبَ الْأَبْرَارِ لَفِى عِلِيّينَ وَمَا أَدْرَبكَ مَا عِلِيّونَ كِتَبٌ مَرقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرّبُون
و يُستفاد من الأيات المتقدّمة انّ المقرّبين ـ أي أصحاب اليقين ـ هم الذين ارتبطوا بالملكوت و بحقائق العالم، و اجتازت قلوبهم جانب المشاهدة الخلقيّة ، فلم يعودوا محجوبين عن الله، لا يحجبهم عنه الحجاب القلبيّ من المعصية و الجهل و الشكّ و النفاق ، و اولئكم همأصحاب اليقين الذين يرون العليّين و الحقائق الملكوتيّة للأبرار و الأخيار ، كما أنهم يشاهدون الحقيقة الملكوتيّة للأشرار و أهل المعاصي التي هي (الجحيم) . [ فمنهنا تجد ربط العصمة باليقين , وكما أن لليقين درجات , علم اليقين ، عين اليقين ، حقاليقين , فإن العصمة أو بالأحرى مقام العصمة ذو درجات و مراتب , و البحث في هذايحتاج وقت و تفصيل آخر[
و بناءً على هذا فانّ الإمام و هو الهادي الى أمر ملكوتي ، يجب أن يكون قد وصل حتماً الى أعلى مقامات اليقين وانكشف له عالم الملكوت ، و صار متحقّقاً بكلمات الله ؛ و كما ذكر فانّ الملكوت هو الوجهة الباطنيّة للموجودات ،
لذا فانّ هذه الأية الشريفة وَ جَعَلْنَهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا
تشير بوضوح الى انّ كلّ ما يتعلّق بأمر الهداية ،أي القلوب و الأعمال ، فانّ باطنها و حقيقتها بيد الإمام ، ووجهتها الملكوتيّة و الأمريّة حاضرة بمشهد من الإمام لا تخفى عنه لحظةً واحدة . و مبحث الهداية التكوينية يجرنا إلى مبحث قيومية ولي الله الأعظم عليه أفضل الصلاة و السلام .
قيومية ولي الله الأعظم
مقام القيومية هي مقام الرعاية و الإدارة لكل شؤونات هذا الوجود و تسييرها , فالأمير صلوات الله و سلامه عليه بحقيقته النورانية و بولايته الكلية على كل ذرة من ذرات الكون من الأنبيآء و شموخ الملائكة إلى أصغر جزيئ في عالم الوجود , قيم على هذا الوجود بأسره , تماما مثل القيم على اليتيم , حيث أن اليتيم لا يستطيع أن يتصرف لضعفه في أمور حياته و معيشته فيحتاج إلى قيم يرعاه و يتولا أمره , فإن هذا العالم تحتاج إلى إدارة من تسيير حياتها و معيشتها و شؤوناتها و تبيين وظائفها , كما قال الله عز و جل : " فالمدبرات امرا " , أو , " يدبر الامر من السماء الى الارض ثم يعرج اليه في يوم كان مقداره الف سنة مما تعدون " , و هذا يدخلنا أيضا إلى مبحث ليلة القدر المباركة و حضور و تنزل الملائكة على ولي الله الأعظم عجل الله فرجه الشريف و إمضاء التقديرات اللهية من الآجال و الأرزاق و حتى سقوط الورقة مثل ما قال الله عز و جل : " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين " , فبهذا التوضيح قلنا أن هذا العالم قائم على نظام دقيق و تحتاج إلى تدبير و رعاية للحفاظ عليها و تسييرها نحو الكمال , فمثلا حركة الأفلاك بهذه الصورة , الخلايا كيف يتكون من خلية صغيرة و نطفة قذرة و تتكامل إلى أن يصبح إنسانا بالغا وكذلك جميع الموجودات فكل واحدة منها لها وظائف التي في إتباعها كمالها , فإن كل موجود في هذا العالم قد بُينت له وظائفه , فمثلا لو زرعت بذرة طماطم فلن تخرج منه تفاح , فإن البذرة لا تستطيع بنفسها أن تفكر كيف تخرج إلى مرحلة تكون فيه طماطم و لكن قد سُن لها سنة تكوينية و لأن قد بُينت لهذه البذرة وظيفتها بأن ماذا تأخذ من الأرض من المواد و كيف تخرج , و ما هي خصوصياتها و رآئحتها و لونها و غير ذلك من الأمور حتى تصبح في النهاية طماطم , الذي هو كمالها , و فوق ذلك الكمال أن يتناولها المؤمن يتقوى بها على طاعة الله , فالنرجع لموضوعنا , فإن هذه الأمور لا يُمكن أن تسير بنفسها لولا وجود القيم الذي يديرها , و يوضح لها , و ليس المقصود من التوضيح لها توضيحا لفظيا كما يفعل المعلم مع التلميذ أو ما شابه , بل المراد من التوضيح هو سنّ السنن الكونية لها و إلقائها إليها , هذا بيد ذلك المخلوق القيم , و لولا وجود هذا القيم فإن هذا الوجود تسيخ بأهلها , و لهذا عبرت الروايات بأن لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها , أو أن الإمام قطب عالم الإمكان , أو أن الإمام قلب العالم , و تعبيرات مشابهة كثيرة , فإن أمير المؤمنين عليه السلام بخلافته و ولايته , فإن هذا الخلافة و الولاية له قيومية على كل ذرة من ذرات هذا الكون , يعني كل ذرة من ذرات هذا الكون تسييرها و هدايتها و إرشادها إلى وظائفها بوجود هذا القيم , سواء هذا الإرشاد يكون من خلال الغرائز أو كانت من خلال الجينات الوراثية , أو عبر ما شئت من الوسائل , فكلها إشارة إلى الولاية التكوينية على كل شيئ , و ليس فقط المقصود من التصرف بالولاية التكوينية , أن فقط تغير ماهية الحديد إلى الخشب مثلا , بل نفس إبقآء هذا الخشب خشبا , أو المآء سائلا , أن يبقى بهذه الشكل و هذه الصورة و أن لا يتغير , و يحافظ على خصائصه , نفس هذا الأمر يحتاج إلى هداية و الولاية و الرعاية , و المتحرك مثلا أن يتحرك حسب نظام سواء أفلاك أو طيور أو حشرات , هذه أنظمة و هذا النظام يحتاج إلى سنة و هذه السنن هي التي تهدي الموجودات , فمن الذي يهديها و يضع لها السنن , إنه خليفة الله , و هذا معنى الخلافة القيومية , فإن القيوم إسم من أسماء الله عز و جل , و الحي القيوم , من أمهات أسمآء الله عز و جل , قال الله تعالى , " افمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " , فولي الله الأعظم و خليفته هو القائم على كل نفس بما كسبت , و قد يعبر عنها بالمعية القيومية أيضا بتفصيل آخر , و هذه الخلافة القيومية هي معنى الولاية التكوينية , و كما أوضحت فليس تنحصر معنى الولاية التكوينية في التصرف في شيئ بل أيضا الحفاظ على الشيئ , فإن هناك مرحلتان ,الأولى : مرحلة الإيجاد من العدم , يعني لا شيئ صار شيئا , و هذا ما يعبر عنها بالولاية الكونية و ليس التكوينية , هذا الشيئ يحدث بلحظة , و لكن إبقائها على نفس الحالة أو تغيير حالتها من حالة إلى حالة أخرى , أو بتعبير آخر تغيير ماهيتها , فهي راجعة و خاضعة إلى الولاية التكوينية , فهذه المرحلة الثانية .
أما المرحلة الأولى , إخراجها من العدم أو الظلمة إلى النور , فهي راجعة إلى الولاية الكونية , أو عبر عنها بالولاية الإيجادية , التي هي أرقى بكثير من الولاية التكوينية ,أما لماذا سميت بالولاية الكونية , ذلك لأن الله عز و جل عبر عنها في القرآن الكريم , " انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون " أي إيجاد الشيئ , أن يكون شيئ , إخراجه من الظلمة إلى النور , من العدم إلى الوجود , هذا بالولاية الكونية التي هي أيضا من مقامات آل الله , محمد و آل محمد الأطيبين الأطهرين صلوات الله عليهم أجمعين , أي يوجدون شيئ من العدم أو يعدمون شيئا من الوجود , بإذن الله و هي من مختصاتهم بأبي هم و أمي لا يشاركهم فيه أحد من العالمين , و يمكن تقريب ذلك بإفاضة الفيض الوجود و قطعه عن الموجود , أما الولاية التكوينية فهي دونها , و هي التصرف في الشيئ أو بتعبير آخر , تغيير ماهية الشيئ , و تغييره من حالة إلى حالة أخرى , مثل , كان ميت صار حي , كان طين صار طير , كان أبرص و مريض صار صحيح الجسم , فهي تغيير من حالة إلى حالة , و ليس إيجادا من العدم .
و هناك الكثير من النصوص الروائية التي تدل على هذه الحقيقة , أذكر هنا على سبيل المثال فقط , مقطع من الزيارة الجوادية الشريفة :
لم يتحرك شيء ولم يسكن في جميع الأحوال إلا باقتضاء الولاية وهو قولهم: “بنا تحركت المتحركات وسكنت السواكن”
فرسول الله الأعظم محمد صلى الله عليه و آله الأطهار و آله الأطهار هم أدبآء الله عز و جل , أدبني ربي فأحسن تأديبي , و قال صلى الله عليه و آله الأطهار , أنا أديب الله و علي أديبي , فهم صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين أكمل خلق الله فهم يشرعون للخلق كلهم من الإنس و الجن و الملائكة و الحيوانات ووو لأنهم خليفة الله في أرضه و فيهم جميع صفات الكمال اللهي و كما في زيارة بقية الله الأعظم صلوات الله و سلامه عليه و عجل الله فرجه الشريف : " السلام عليك يا عين الله في أرضه " العين من العينية , يعني هذا عين ذاك و لها معاني أخرى أيضا , و يستفاد من هذا المجمل أيضا إثبات الولاية التشريعية للإنسان الكامل , و لا بأس بالإشارة إلى تعليق سيد الإمام الخميني قدس سره الشريف في ذيل قوله في أوائل شرح دعآء السحر المبارك , " الباطن فيهم النبوة " عن أستاذه الشاه آبادي رضوان الله عليه :
ان لسالك بقدم المعرفة الى الله ، اذاتم سفره الثالث و سرى بهوية الجمعية فى جميع مراتب الموجودات ، يرى بعين البصيرة جميع مصالح العباد، من امور المبداء و المعاد،و ما يقربهم اليه تعالى ؛ و (إن ) الطريق اليه لكل احد بخصوصه ، و لو التشريع فى هذا المقام . و كان هذا المقام حاصلا لمولانا قطب الموحدين و امير المؤ منين والائمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين من بعده ؛ ولكن رسول الله - صلى الله عليه و آله - لما تقدم عليهم زمانا و كان صاحب المقام ، اظهر الشريعة ، فلم يبق مجال لتشريع لاحد، لتمامية شريعته . فلا بد للاولياء من بعده من متابعته . و لو فرضنا تقدم اميرالمؤ منين - عليه السلام -عليه - صلى الله عليه و آله - زمانا لاظهر الشريعة و تكفل امر الرسالة و النبوة ؛ فللرسول - صلى الله عليه و آله - متابعته اذا جاء بعده . و لكن الحكمة البالغة تعلقت بأن اظهر الشريعة بيد رسول الله - صلى الله عليه و آله .
و أعتذر عن الإطالة
و أسألكم و بحق الزهرآء سلام الله عليها أن لا تنسوني في هذه الليلة بالخصوص و هي ليلة القدر و ليلة إستشهاد أمير المؤمنين علي بن أبيطالب صلوات الله و سلامه عليه من خالص دعواتكم لي بالتوفيق في نيل رضى إمامي الحجة عجل الله فرجه الشريف و جعلنا الله إياكم من خلص خدامه و أنصاره المستشهدين بين يديه ,
و كذلك التوفيق في حياتي و دراستي , بحق محمد و آل محمد الأطيبين الأطهرين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين .
خادمكم
لواء الحسين
يا علي
10-09-2009
الموافق ليلة الجمعة و ليلة القدر 21 من شهر رمضان سنة 1430
---------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق